تابعنا عبر الفيسبوك

الأربعاء، 7 مارس 2018

رواية ايدمر الحب العالم .. الفصل الاول

أيدمر الحب العالم 



الفصل الاول..

          أنا أعرف خطأي، فقد أحببت رجلا لا حدود لطموحه الآثم، كل ما يرغب به هو أنا ومن ثم امتلاك أكبر قوة على وجه الأرض (أحجار الجحيم) المادة التي صنعها العالِم جوزيف إل وانتحر قبل أن يشاركها مع العالَم، ستيل هارت الشاب الذي حطم توقعات أقوى رجلٍ على وجه الأرض بلا منازع، الذي مهما بلغت القوة المجابهة ضده يغلبهم وحده،  فيبدون للعالم  كالحمقى أمامه، أراد أن يفرض نفسه إمبراطورا على البشرية والاستيلاء على أحجار الجحيم سيضمن له انكسار قوى العالم ضده، هو يكاد أن يقضي على أعدائه الثلاثة من مختلف أنحاء العالم عدة مرات، هم أيضا يملكون قوى عجيبة، وهم أيضا في سباق مع حبيبي ليمتلكوا تلك القوة  لإيقافه وإخماد غروره، وفي خضم الأحداث وقعت في مصيدة الأبطال الثلاثة وأسرت في مقرهم السري، لا أعلم أين أنا هل أنا على سطح الأرض أم تحتها، هل أنا في كهف جبل أم بوسط المحيط، هم لم يسمحوا لي أبدا برؤية السماء التي اشتاقت لها عيناي.

       طلبت من قائدهم توماس مذكرة وقلم أو حاسب آلي مرات عديدة، علي إن كتبت مذكراتي سيمنعني هذا من الانغمار بجوف ظلمات الجنون، فتنازل لي عن  هذه الآلة العتيقة لعل عمرها قارب المئة سنة، أقسم بأنني لم أقترف خطأ في حياتي فأنا لم أؤذي أحدا، حتى أنه ليس لي يدا في هروبه من السجن، هم ينظرون إلي وكأنني قتلتهم وكأنني ارتكبت جرائمه،  أنا لم أتقبل ما يفعل لكن قلبي ليس بيدي إنه بيده هو وهو أحبني وأدمن علي، على صوتي على وجهي وعلى دفء جسدي، عندما نكون لوحدنا لا أصدق بأنه قد يؤذي أحدا، لا أصدق بأنه قد يقتل رجلا لكنه فعل! لا أصدق بأنه قد يسرق دولا لكنه فعل! لا أصدق بأنه سيُنزل الدمار على البشرية من أجل أن ينال ما يريده لكنه الآن يفعل!

الفائدة الوحيدة التي جنته يداه هي اتحاد دول العالم وانقلابهم سويا ضده في محاولة عنيفة لإيقاف تطوره وتوسعه بينهم، توقفت الحروب وأصبحت للعداوة كفتان إما معه وإما عليه.

هل تحبون أن تعرفوا قصة حبي معه، إذا ها أنا سأحكيها لكم..















       أنا آستر جون ولدت وترعرعت في ضواحي مدينة نيويورك.

           بدأت قصتي معه عندما عينت ممرضة في أخطر سجن في العالم، وهو سجن لأصحاب القوى يمكنهم أن يرفعوا سيارة كما يمكنك أنت أن ترفع ريشة، يمكنهم أن يحلقوا في السماء كالصواريخ يمكنهم أن يلعبوا بإرادتك كيفما شاءوا.

       نحن ندعوهم (الخارقون) وعندما يولد لأحدهم طفل بهذه القوة، يتبدل وضعهم وكأنهم ربحوا اليانصيب، ويعطى الأهل معونة كبيرة ورقابة مركزة، فهم لا يرغبون بطفل مختل يمتلك قوى هائلة ليعصف بالعالم كيفما شاء، بل حتى أن مستقبلهم متنبأ به، فهم دائما ما يعملون لدى الحكومات في الأمن القومي أو في الجيش والشرطة،  وبمرتباتٍ ضخمة، حتى أنه شيع بين الناس بأنها تتعدى الستة أصفار، هكذا هو النظام في جميع الدول، وافقت على مضض لأُوظف هناك على أنني سأطالب بنقلي، سأوكل محاميا جيدا وسأودع زملائي قبل أن أتعرف عليهم، فقط علي أن أجمع بعض المال، فالأحداث السيئة تحدث لمن يخالط الخارقون وتزداد الخطورة حينما يتضمن المكان الخارجون عن القانون منهم، عندما بدأت الوظيفة حقنت بمادة تغير البصمة الجينية داخلي، عملها الأساسي أن يقاوم جسدي أوامرهم وأن تكون لي إرادة حرة في قراراتي دون أن أتأثر بهم.

      قال لي الطبيب السيد إدوارد رئيسي في العمل، أنها لحمايتي لأنني سأواجههم مباشرة وسأكون هدفا سهلا لهم وهذه المادة ستمنعهم من اللعب بإرادتي، إنها تجعلنا نوعا ما نشبههم، نكتسب شيئا من المناعة منهم.

     قديما قبل اكتشاف هذه المادة لم يعمل في هذا السجن إلا أمثالهم فهم لا يمتلكون المقدرة على تسلط بعضهم ببعضهم، لكن الآن عندما توفرت لنا الحماية من سيطرتهم علينا، استخسرت الحكومة وجودهم هنا وفضلت استغلالهم في الخارج حيث يمكنهم القبض على أمثالهم والتحقيق معهم. ألمتني الحقنة كثيرا لكنني ممتنة لها، العديد لا ينعم برفاهية الحصول عليها فسعرها مرتفع جدا.

     بدأت بتصفيف شعري الأسود لملمته وربطته بربطة سوداء غسلت وجهي  بالماء البارد فتوردت وجنتاي على الفور، أحبطت فأنا لا أرغب بالتجمل، لن أطيق التعليقات التي سيلقونها علي، بالطبع سيكونون مزعجين لي ارتديت ملابس العمل، قميص أبيض وبنطال أبيض فتباين لون شعري وعيناي السوداوان مع زيي الرسمي (أوه يا آستر السخيفة ستدخلين إلى وكر أسوء الخارقون وكل ما تقلقين منه هي تعليقاتهم السخيفة، هيا يا عزيزتي أنت مررت بأسوأ من مجرد كلمات رخيصة، أنت تضورت جوعا وبلغ منك الإجهاد مبلغه، محاولة التوفيق بين عملك الجزئي ودراستك الطويلة، إن كان هناك تعليقات مزعجة فهي لن تضرك)







أخذتني الممرضة "كارين" في جولة داخل المبنى بأمر من الطبيب،  وحدثتني بمعظم القوانين التي لا يمكن مخالفتها والتي أعرفها مسبقا في دورة التدريب قبل البدء هنا، لكنني استمعت بصبر إلى تذمرها المستمر من تشدد المدير في هذا الأمر، ثم قابلنا الحرسين "بين" و"ماثيو" وعرفتني عليهما، تبادلنا التحية، ماثيو قصير بجسم نحيل له شعر أحمر يواجه كارين بوقفته أينما تحركت، فيتحرك موازيا لها فعلمت بإعجابه بها، كما أن كارين بدت  وكأنها توجه حديثها كله لماثيو أما بين فقد تحمس واتسعت ابتسامته فور رؤيتي وصافحني وهو يغدق بإطراءه علي.

_ وأخيرا سبب يشوقني لعملي.

أجامله بابتسامة هادئة بين شاب طويل عريض المنكبين قمحي البشرة ذو شوارب عريضة، لا أرتاح له فعيناه الجاحظتان تكاد تخرج من رأسه علي، هذه النظرات تلتهمني بلا رحمة علي أن أهرب من هنا.

تكة صغيرة صدرت من ساعتي لتعلن عن بدء العمل اليومي، انتهزت الفرصة فغادرتهم متعجلة، أقابل الطبيب إدوارد رجل في منتصف الأربعينات، خلوق، قد يبدو بدينا لكنه نشيطا للغاية، وبالكاد أنجح في ملاحقته وحفظ ما يقول، سيكون يومي الأول معه ومن ثم قد أستقل بمكتب لي.

دخلت العيادة وجهزت أوراق المريض الأول هو جاك جونسون، قاتل من الدرجة الأولى يقتل للمتعة فيقف في الطرق السريعة بغتة لترتطم به السيارات الممتلئة بالعائلات المطمئنة، ليقضي عليهم ولا يصاب هو بخدش، أرعب الناس وأصبحت الطرق شبه خالية، حتى أنا فضلت الابتعاد عن هذه الطرق في تلك الأشهر التي مارس بها هوايته المريعة.

كنت مرتعبة للغاية، أي امرئٍ كان بإمكانه قراءة مخاوفي، كنت أتحرك باضطراب وأدور في غرفة الكشف محاولة تهدئة أعصابي، فمن المجنونة التي ترغب بالتواجد بالقرب من المجرمين أصحاب القوى الخارقة في غرفة واحدة، دخل الطبيب إدوارد الذي لاحظ توتري، فقال:

_ لا تقلقي منهم فهم لا يستطيعون التحرك إلا بأمر مني ومن الحرس، كما أن السجن مزود بتيار مغناطيسي يمنعهم من التحليق داخل السجن أو خارجه لمساحة لا يقل قطرها عن خمسة أميال.

أخذت نفسا عميقا وقلت له بصوت مرتجف

_ شكرا أيها الطبيب.

كنت بحاجة لهذه الكلمات التشجيعية لأحس بقليل من الراحة لكن ما زالت يداي ترتجفان.

        غالبية الجدران كانت من الزجاج المضاد للرصاص، فكنت أرى من سيدخل من بعيد أنه المريض الأول من أصل أفريقي، كان ضخم الجثة مفتول العضلات، يلعن و يشتم كل من يقع على ناظريه بشفتاه الغليظتان، يا لا هذه الورطة ألم يجدوا رجلا أهدأ منه في يومي الأول، وفي مريضي الأول، دخل السجين الغرفة  وأطلق الشتائم على الطبيب، طلب مني الطبيب قياس ضغطه، وأخذ عينات من دمه فعلت ما أمرني به، توقعت كما هائلا من الشتائم حين كسرت الإبرة من صلابة يده لكن جاك ظل صامتا لعله يجهز لي سبابا محترما.

قال الطبيب متمللًا معتادًا على ما يواجه من سلوك المساجين هنا:

_ أرخ يدك يا جاك لن تدخل الإبرة وأنت مشدود العضلات هكذا.

نظر إلي جاك الضخم وفتح فمه توقعت منه شتائم مهولة قذرة لكنه قال:

 _ أنا أسف عزيزتي جربي الآن.

دهشت منه ومن تصرفه الغريب فقال:

 _ماذا ألا يمكن أن أكون مهذبا، أمي قالت لي الرجل الحقيقي لا يصرخ على امرأة.

ابتسمت له لا إراديا هاهو يتلطف إليَّ وفي السابق يقتل عائلة بأكملها أي نوع من الرجال هو، النوع المختل بلا شك.

انتهيت منه وذهب كما جاء ساخطا شاتما لكل رجلٍ يراه.

توالى المساجين واحد بعد الآخر يغلب عليهم الحديث الفاسق والشتائم الشنيعة، كان نهارا مزعجا حتى قارب على نهايته.

  وقفت أمام المرآة الصغيرة وغسلت وجهي بالماء البارد، نسلت ربطة شعري لينزلق على كتفي، وكأنه سئم أسري له فقررت تركه على حاله كانت الغرفة خالية هادئة وكنت أنا متعبة نعسة، استلقيت على سرير المرضى ورميت بحذائي بجانب السرير الأبيض، ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أصحو على صوت الطبيب إدوارد.

_آستر آستر استيقظي بقي مريض واحد.

 أفقت متثاقلة وقفت وأنا حافية القدمين، دخل السجين الأخير، ودخل قبله مجموعة من الحراس، كانوا هم أيضا من أصحاب القوى.

 صدمت عندما رأيت وجهه فقد ميزت ملامحه من جميع قنوات الأخبار، إنه القاتل الأول في العالم حكم عليه بالموت عشرون مرة، وفي كل مرة ينجو، ويهرب من سجنه، وحينها ترتعب جميع الدول فهو إن ضرب يضرب بشدة، يقتل بلا هوادة، لا أحد يتمكن من أن يقف في طريق نجاحه، جملته المشهورة:

(إن لم أحكم العالم من سيفعل)

أثارت رؤيته الرهبة داخلي، حقيقة أنه لا تفصلني سوى ثلاث خطوات عنه تصيب أطرافي بالشلل.

أخذت حذائي وأنا أكاد أسقط من الخوف، تعرقلت ثم استعدت توازني، بدأت يداي بالارتعاش بغضت هذا الشعور الفظيع لا أستبعد أن يفجر السجن بأكمله حتى يهرب من هنا.

كان ينظر إليَّ مسترخيا ويقول بابتسامة شاب واثق:

_ على رسلك عزيزتي فأنا لن أمضي إلى أي مكان على الأقل هذا اليوم.

أثارت عبارته حناقة أحد الجنود فوكزه بسلاحه ثائرًا

_ اخرس أيها الأحمق.

لم يرد على الجندي بل أنه حتى لم يغير نظره عني لا يبدو بأنه شعر بتلك الضربة القوية، انتهيت من ارتداء حذائي وأحكمت على شعري الربطة السوداء، هيأت السرير له ليستلقي عليه، أحضر الطبيب حقنة بداخلها مادة خضراء وخطا نحو المجرم "ستيل" سمي من قبل والده بستيل أي الفولاذ عندما علم أن ابنه خارق القوى، يقال أنه هو من زرع فكرة السيطرة على العالم في رأس ابنه منذ نعومة أظافره.

شرح لي الطبيب إدوارد قائلا: نحن نحقنهم بهذه المادة كل أسبوع لتخفف من قواهم الخارقة لكن السيد ستيل سنحقنه بها كل يومين لأنه ليس بالسجين السهل إنه أقواهم على الإطلاق.

استلقى ستيل على السرير الأبيض مكبلًا بالفولاذ والحديد كان أسود العينان، أسود وأملس الشعر، نحيل الجسد؛ لكنه يبدو بلياقة ممتازة، بشرته بيضاء لا شائبة فيها.

اقترب منه الطبيب، وطلب منه أن يفرد ذراعه فقال ستيل ببرود.

 _ لا لن تُدخل هذه المادة بداخلي.

قال الطبيب مهددا رافعا نبرة صوته عله أن يخيف السجين الذي أسس إمبراطورية بنيت من العدم

_ ستصعق بالكهرباء إن لم توافق عليها، ليست لديك الحرية الآن.

لكن هيهات هيهات... وهل يهدد عدو العالم بجملة قصيرة، نظر إليه ستيل بطرف عينه وقال ببرود:

_ افعل ما شئت.

أشار الطبيب للجنود، فأحضروا جهازاً بحجم شنطة سفر صغيرة لها أزرار كثيرة وأسلاك عريضة ملونة، ثم عروه من الملابس لم يتبقى إلا سرواله الأسود الذي يغطي ثلاث أرباع فخذه، وأوصلوا جسده بالأسلاك العريضة أشار إلي الطبيب بالخروج، فقال ستيل بابتسامة واسعة وعيناه تراقبني بإصرار.

 _ لا تدعوها تخرج إنها الوجه الوحيد الجميل في هذا السجن.

رباه أي قلب لديه، سيتعرض للتعذيب حتى الإغماء وهاهو يعلق وكأنه يجلس في مقهى يحتسي القهوة على كرسي وثير.



ارتحت لطلب الطبيب فخرجت على الفور خوفا من أن يغير رأيه، وجلست على كرسي وحيد في الغرفة المجاورة، ثم سمعت صوت صراخ ستيل الرهيب، كان يتعذب بشدة ظل يصرخ لعشرة دقائق حتى ظننت بأنه سيعدم الآن، وبعدها ساد الهدوء وعلا صوت الطبيب يقول:

_ يا إلهي أي قوة هذه، آستر تعالي إلى هنا.

دخلت لأجد السرير قد كسر ومزق بالكامل، كان الطبيب منفعلًا متعرقًا، فناولني الإبرة الخضراء وطلب مني أن أحقنه بها، خفت كثيرًا من أن يستيقظ وأنا بجانبه فيقتلني، هو كان وكأنه نائمًا في سلام، لم يكن به أي حروق، بشرته بيضاء بلا شوائب، شعره يلمع بلا عيوب، غرست به الإبرة في ذراعه سريعا، وفرحت كثيرا حينما انتهيت، وابتعدت عنه، استأذنت الطبيب للمغادرة فساعات العمل قد انتهت، وغدا سيكون كاليوم حافل بالمرضى حافل بالضوضاء.

       عدت إلى شقتي الصغيرة لأجد جاري السكران يلقي بكلمات هوجاء كملابسه قذرة ورخيصة، فتحت الباب سريعا وأقفلته خلفي، علي الخروج من هنا فهذه البناية ليست آمنة كعملي تماما، عند أول مرتب سأخرج من هنا.

      كان اللقاء الثاني بعد يومين أحضروه على كرسي بعجلات، لم يحط به عدد كبير من الجنود كالمرة السابقة بل جندي عادي بلا قوى، أدخله غرفة الكشف وخرج، أما الطبيب كان بالخارج يحدث زوجته على الهاتف، حاول ستيل أن يصعد على السرير لكنه ما أن وقف سقط أرضا وتأوه، بقيت بعيدة عنه فأنا لن أخاطر بنفسي لأجله لن تقتله الأرض، دخل الطبيب  وأمرني بمساعدته، كنت سأرفض لكنني تذكرت شقتي المتواضعة وجاري السكران ورغبتي الشديدة بقبض أول مرتب لي، فاقتربت من ستيل لكنه أشار بيده ألا تقتربي، لعل كبرياءه لا يسمح بمساعدتي له، حاول هو الوقوف عبر تسلق السرير الجديد، التفت الطبيب إلى ستيل وقال: لا تقلقي هو لن يقدر على إيذاءك.

أجبت الطبيب بعناد وكأنني طفلة صغيرة تلقي باللوم على زميلها.

_ هو لا يريد مساعدتي.

ساعده الطبيب رغم رفض ستيل فعاونه على تسلق السرير، قائلا:

_ لو أنك تعاونت معنا لما أصبحت بهذه الحالة.

 مرر يداه على شعره الأسود القصير ليعيده إلى الوراء، وقال بكبرياء وإرهاق واضحين:

_ لم أطلب مساندتك.

تجاهله الطبيب وأحضر الحقنة الخضراء، وناولني إياها، قائلا:

_ هل تريدين فعلها.

أجبته وأنا أهمس له:

_ لا.

تضايق الطبيب قليلا وتأفف بملل لكنه أكمل طريقه إلى ستيل، قائلا:

_ ستكون لديك مسؤولية حقن ثلث المساجين، سأرسل لك المهذبين منهم.

أقولها بامتنان صادق:

_ شكرا لك.

يبدو ستيل مهذبا على الرغم من جرائمه فهو لم يشتم أحدا، ولم يقبل مساعدتي، لعله لن يؤذيني أيضا، يتملكني فضول لما في رأسه، أي حب للسيطرة متعمق في قلبه، ترددت لكنني قلتها وقد تقدمت بضع خطوات ومددت يدي إلى الطبيب:

_ سأفعلها أنا.

ارتاح الطبيب واسترخت ملامح وجهه، ناولني الحقنة فأخذتها من يده، خطوت نحو ستيل وفردت ذراعه، فتح عينيه السوداوان وقال:

_ الحمد لله أنه أنت، فأنا لا أطيق ذلك الطبيب القبيح.

عيناه المظلمتان تفتن روحي، (ماذا يا آستر هل ستتعلقين به بهذه السرعة كوني أكثر تعقلا بحق الله، هذا مجرم دولي، وليس شاب صالح للزواج)

أدرت عيناي بعيدا عنه، ومركزة في ذراعه فأنا أوافقني الرأي في الحقيقة،

 أدخلت محتويات الإبرة في ذراعه، تعرق جسده وارتجفت يداه، قال لي الطبيب:

 _ عليك الآن خفض حرارته بالماء، فجسده لم يعتد على هذا الدواء، والحرارة تفسد مفعوله، هل ستكونين بخير معه؟

 أخذت قطعة قماش وغمرتها في صحن الماء المثلج، ومسحت جبينه بها، لم يكن هنالك شيء لا أعرفه، فنحن نأخذ دورة شهر كامل في كيفية التعامل مع السجناء الخارقون قبل التخرج، وهذا استعدادا لخدمة وطننا في سجون الدولة.

_ نعم سأكون بخير.

 بدا لي جسده وكأنه يحترق بشدة، خرج الطبيب إدوارد ليهتم ببقية السجناء وبقيت أنا مع ستيل، أفعل ما بوسعي لمساعدته و هو يهذي إليَّ:

فمرة يقول:

_ عندما أحكم العالم سأقتل ذلك الطبيب الأبله.

ومرة يقول:

_ أنت حلوة جدا كقطعة حلوى.

ومرة يقول:

 _ سأخرج من هنا سريعا، لدي جواسيس في كل مكان.

ومرة يقول:

_الأحمق توماس سأسجنه داخل فوهة بركان ثائر.

ثم يضحك بعد كل عبارة.

عندما أستثني حبه للسيطرة على العالم فهو يبدو شابا محبوبا للغاية، وسيم، ومهذب، وعندما يطريني استشعر بالقشعريرة تسري في جميع أنحاء جسدي، مسحت جبينه بقطعة قماش رطبة وقلت بصدق:

_ فقط لو لم تكن بهذه الطموح الخاطئة.

فتح عيناه السوداوان وابتسامة شاحبة تعلو شفتيه، قائلا جملته المشهورة:

_ إن لم أحكم العالم من سيفعل.





ثم يفقد وعيه من جديد.

أرهقتني حرارة جسده، علي أن ألتزم بالنظام الذي درسته، فطلبت من الحراس توفير حوض يتسع له، وملأته بالثلج و الماء، أخذه الحراس وألقوه بقسوة داخل المغطس فغضبت، وأحسست بنبضات قلبي تتضخم بعنف وصحت بهم.

_سأكتب تقرير عما فعلتماه، هذه ليست أخلاقيات العمل.

رد علي أحدهما بعد أن مط شفتيه بازدراء.

_هل تشفقين على هذا القاتل ألا تعرفين من هو؟

فيما قال الأخر مغادرا:

_ أكتبي ما بدا لك فأنا لا أهتم.

خرجا الحارسان وبقيا خارج الباب فيما بقيت أنا مع ستيل، بدأت أشفق عليه هاهو من اعتاد القوة، يهذي بلا سيطرة، يؤذى بلا قدرة للدفاع عن نفسه، حاولت جاهدة إبقاءه فوق مستوى الماء خشية غرقه، لكنه ينزلق من يدي كل مرة فشمرت عن يداي، وجلست خلف الحوض لأحيط يداي بجسده كي لا يسقط، مرت عشرة دقائق حتى انخفضت حرارته، وبدأ يفوق ويصحو لنفسه فتركته، عضلات يداي تصرخ ألما.

 نادى علي بصوت ضعيف:

_ يا صاحبة الوجه الجميل، أنا بخير هلا عدنا إلى السرير.

عاونته على الوقوف، وأحضرت له منشفة وثيابا جديدة جافة، قلت له:

_ جفف جسدك جيدا، وارتدي هذه سأنتظرك في الخارج.

خرجت إلى غرفة العيادة أخرج بطانيات إضافية من أدراج دولاب حديدي، خرج هو بعدي بثيابه الجديدة، كان يتأرجح يمينًا ويسارًا، تأثير الحقنة الخضراء قوي جدا على جسده، حتى هو أشهرهم قوة يتحول إلى رجل عليل بسببها،

عاونته حتى استلقى على السرير، ليس من المسموح له بالعودة إلى زنزانته حتى تستقر درجة حرارة جسده، غطيته بثلاث طبقات من بطانيات الصوف الرمادية هذه ستجعله يشعر بالتحسن والراحة.

       الساعة الثالثة مساء، هو نائم بعمق، وأنا أكاد أموت من التعب، يتسلط النوم علي فأغفو ويدي على جبينه، عندما استيقظت لم أجده أمامي وقد اختفى الحارسان من أمام الباب أيضا، لعل الطبيب إدوارد سمح له بالعودة إلى زنزانته، الإرهاق يصيبني بالصداع، فأستلقي على السرير وأرحل إلى عالم الأحلام.



استيقظت الساعة الرابعة عصرا انتهى الدوام منذ ساعة مضت، لم يزعجني الطبيب خلال نومي لعله يعرف أن الاهتمام بسجين جديد متعب هكذا.

سأعود إلى شقتي وجبة ساخنة هناك ستعيد إلي هدوئي.

       عندما خرجت من المصعد كان الممر هادئا لعل جاري "براند" نائمًا الآن، هذا أفضل أدخل سريعا خوفا من مواجهته، تكفيني كلمات السجناء البذيئة، رأسي لن يحتمل كلمة أخرى، حمام دافئ ووجبة ساخنة (مكرونة فيوشيني) وجبتي المفضلة التي أكلها بلا ملل منذ ثلاثة أسابيع، فتحت التلفاز على قناة أخبار، ستيل هارت يقبع في سجن (الخارقون 12)

للمرة الواحدة والعشرون، وهذه المرة تؤكد السلطات إعدام ستيل هارت.

           تبدو المذيعة المتأنقة مرتاحة جدا لهذا الخبر، أغير القناة أيضا ستيل هارت ضمن قائمة أكثر الرجال جاذبية في العالم، لا أنكر هذا بالأمس شعرت بعينيه تخترقا روحي أنه فعلا رجلا جذاب، مهلا يا آستر ليس من الآمن لك الوقوع تحت سحره، لا مزيد من ستيل هارت إنها فقط علاقة عمل، لن تكون أقل من ذلك ولا أكثر، أقفلت التلفاز فغدا سيكون يوما طويلا.

         الساعة الثامنة صباحا اللعنة كيف نمت هكذا، ليس من الجيد التأخر في الأيام الأولى من عملي، حمام ساخن على السريع، وقطعة خبز باردة تكفيني الأن على الأقل، إلى أن أنتقل من هذه الشقة البائسة، أخرج لأجد جاري براند السكران مستلقٍ أمام شقته.

أيقظه صوت مفتاحي وأنا أقفل شقتي، ينظر إلي بوقاحة ويقول:

_ آستر الحلوة أشعر بالوحدة، لمَ لا ندخل إلى شقتك ونقضي وقتا مميزا؟

أجبته وأنا راحلة:

_اذهب إلى الجحيم.

_ فتاة ملعونة.

       وأنا في طريقي إلى مبنى العيادة أجد ستيل هارت يستلقي لوحده في ساحة السجن الواسعة فوق أعشاب الإنجيل المخضرة، جميع نزلاء السجن فضلوا الابتعاد عنه، هل يمكن لرجل مثله الاحتفاظ بهيبته رغم زوال قوته! فهو ليس أكبرهم حجما، كما أنه في الخامسة والعشرين من العمر فقط، يتنبه لي أحد السجناء ضخم الجثة كريه المظهر فيصيح قائلا:

_ لما لا أحظى أنا ببعض الاهتمام.

ينتبه ستيل إلي وأنا أراقبه من بعيد، أحسست بالغيظ بسبب ذاك السجين البغيض، فشددت قبضتي أتمالك أعصابي وأتجاهله مغادرة، مضيت إلى مقر عملي، لم يكن الطبيب غاضبا أو حتى متضايقا من تأخري أو لم يكن لديه الوقت الكافي للحديث معي، طلبت إدخال نزلاء السجن.

مر اليوم مرهقا متعبا لكنه سلسلا، مازلت أفتقد شيء ما أو لعله شخصا ما.

غدا موعدي مع ستيل هارت، كم أتشوق للقاء به.

لحظات ويدخل ستيل أنظر لنفسي في مرآتي، القليل من ملمع الشفاه، ورسمة فرنسية صغيرة على عيني لتزدادا اتساعا، هذه المرة يدخل ستيل بنفسه يرافقه جندي يبدو بحالة جيدة، يمشي بثقة يداه وقدماه مكبلتان بالحديد، هاهم قد أطمئنوا له بعد تلك الإبر الخضراء، يقول بصوت هادئ:

_ مساء الخير يا طبيبتي الفاتنة.

أخجلتني كلماته فأحسست بالدماء تتدفق إلى وجنتاي.

_ أنا لست طبيبة أنا ممرضة.

_هذا أفضل فأنا أكره الأطباء.

ابتسمت له من قلبي وشعر هو بذلك، مد يده.

_ لم نتعرف جيدا أنا ستيل هارت، مجرم دولي وملك المستقبل.

لم أعرف حقا هل أحزن أم أضحك، فاكتفيت بابتسامة صغيرة وصافحته قائلة:

_ آستر جون ممرضة متخرجة للتو ومتلهفة للخروج من هنا.

عقد حاجبيه متضايقا.

_ حقا ألن تبقي من أجلي، على الأقل حتى أهرب من هنا.

تجاهلت سؤاله وأنا أثبت حزام قياس الضغط على يده.

_ كيف حالك اليوم؟

_ سيء للغاية حلقي يؤلمني، هلّا ألقيت نظرة.



لا يبدو أنه مريض، إنه فقط يتلاعب بي.

_ حسنا أفتح فمك وقل آه.

_ آااااااااه

_لا أرى ألتهابا، هل أنادي لك الطبيب إدوارد؟

لوح بكلتا يديه، قائلا:

_ لا لا، أشعر بأنني تحسنت كثيرا.

حقنته بالمادة الخضراء، لا يبدو بأنها تؤثر عليه كما في السابق، حرارته مستقرة تماما.

_ خبر رائع يا سيد هارت يبدو أنك لن تقضي الليلة هنا.

عبس مازحا قائلا:

 _ لماذا فقد أحببت أخر ليلة قضيناها سويًا، أرجوك ناديني ستيل.

_ سيد هارت يمكنك الرحيل الآن.

وقف واقترب مني بسرعة، حتى أحسست بوجنته تلامس وجنتي وهمس في أذني

_ هل يمكنني أن أطلب قطعة حلوى بالكراميل، فهم لا يقدمونها هنا.

هجم الحراس عليه بعنف وأخذوه بعيدا عني، أقشعر جسدي عندما همس لي، أحببت قربه مني مع أنه أخافني، إنه الشعور المتناقض الذي حيرني.

_حسنًا كيف هو؟ هل هو وسيم كما يقال في التلفاز؟ أم أن سحر التلفاز جعله يبدو كنجم أكثر من مجرم؟

تقول صديقتي ماري ونحن نتجول في المركز التجاري.

 أشعر بالحرج من إجابتها فإن أعجبت بأحدهم فأنا أكره الحديث عنه، حرارة وجهي ترتفع، فتصيح ماري:

_ أنت معجبة به، وجهك يحمر بسهولة يا فتاة، انتبهي من الوقوع في الحب معه فهو رجل مخيف!

_ أوه يا ماري أنت تبالغين هي دقائق معدودة كل يومين، أنا أبدا لن أحبه.

أرى محل متخصص في الحلوى فأتذكر همسات ستيل الدافئة، ندخل المحل سويا و"كايت" تثرثر عمّا تقوله الأخبار بشأن ستيل هارت وأنا أبحث عن حلوى الكراميل، أقف أمامها مترددة فتقول لي ماري:

_ عزيزتي إن أردت الحلوى فاشتريها، ليس عليك القلق على قوامك فأنت في أمان، أما أنا علي أن أبتعد بقدر ما أستطيع من هنا.

أخذت قطعتين منها، وأدفع للشاب صاحب المحل، لن أعطيها له فقط سأجرب ما يحبه ستيل هارت، إنه فضول لا أكثر، تستأذنني ماري لترحل إلى موعدها مع زوجها "رون"، فأعود إلى شقتي الساعة التاسعة مساءً، جاري براند يزداد وقاحة يوما بعد يوم، أخرج رذاذ الفلفل وأشد عليه بيدي ويدي الأخرى تحمل مفتاحي، يتوقف المصعد أمام الممر المؤدي إلى شقتي، براند يجلس متكئًا على بابه، وزجاجة كحول تنسكب بجانبه، يلتفت إلي ويبتسم بقبح.

_أنت تعلمين أنني أريدك لما لا تسلمين نفسك إلي، وتريحنني من مطاردتك طوال اليوم.

اللعنة هو مزعج قذر في السابق، لكنه يبدو أكثر إخافة الليلة!

_ إبقى بعيدا يا براند سأتصل بالشرطة إن لمستني.

أُسرع الخطى من أمامه، وأفتح باب شقتي، شعرت ببراند يدفعني إلى الداخل، ألتفت أليه ودفعته، وحاولت رشه برذاذ الفلفل لكنه لوى ذراعي، وألصق وجهي بالجدار، ثم ألصق جسده المنتن بي، أحسست بيدي وكأنها ستكسر، فأرجعت رأسي بقوة لأصيبه في أنفه، تراجع هو إلى الوراء، ودماءه تتصبب من فتحتي أنفه، وهو يصرخ بانفعال:

 _ أيتها الملعونة أيتها الملعونة البائسة.

سقط أرضًا خارج الشقة فأقفلت الباب، اتصلت بالشرطة وأنا أنتحب بصوت خافت، شرحت لهم ما حدث بكلمات متقطعة ثم وصلوا بعد عشرين دقيقة، براند فر هاربا ولا أثر له، ظللت أصرخ في رجل الشرطة، ودموعي تعدو على وجنتي:

_أنتم تأخرتم لماذا، لماذا!

علمت بعدها أنه لن ينفعني أحد عليّ الخروج من هنا، لكن إلى أين؟

رحل رجال الشرطة بعد أخذهم لأقوالي، ومنحي وعودهم الواهية بالقبض عليه.

أتذكر حين كانت الحياة أجمل مع وجود أبي وأمي، أبقياني آمنة حتى مرضا، ودخلا في غيبوبة طويلة، لم أستعد يوما لفراقهما ولن أفعل أبدا، أنا أؤمن بأنهما سيصحوان يوما ما.

لم أنم طوال الليل، خوفي من براند الحقير منعني من حتى أن أغمض عينيَّ، أتمنى لو أستطيع النوم في العيادة، فهي تبدو لي أكثر أمانا الآن، وصل الباص الذي يؤدي إلى السجن، القليل جدا يصعدون على متنه، بضع من زملائي في العمل، المحطة التاسعة لا أحد يفضل الوقوف عند هذه المحطة فهي في آخر المدينة في الجزء الذي يحتوي على سجن الخارقون، أدخل من البوابة الكبرى، وألقي التحية على "ميغيل" رجل الأمن العجوز.



أقابل الطبيب إدوارد في غرفة الخزائن نتبادل التحية وأسأله عن حال الزوجة والأطفال، والدتي دوما تفعل هذا تسأل عن حال الجميع، أتمنى من الله أن أعمل في المستشفى التي ترقد فيها هي ووالدي، أحاول رفع بضع خصلات من شعري إلى الوراء، فتفاجئني يدي بآلام مبرحة، أتأوه بألم، ينتبه إليها الطبيب، ويصر على رؤيتها:

_ أرني يدك يا آستر ليس من الصحي أن تبدئي يوما طويلا مع هكذا آلام.

ابتسم له بحرج:

_ إنها لا شيء، أعدك لن تؤثر يدي على عملي.

يعبس وخيبة أمل تعلو وجهه:

_ هل تظنين أنني أهتم للعمل، أنا لست رئيسا قاسيا، تعالي إلى عيادتي قبل الساعة الثامنة.

أومأت برأسي إيجابا.

دخلت عيادته فوجدت ستيل هارت يستلقي على السرير ويداه مكبلتان بالحديد، وعيناه مقفلتان وكأنه في نوم عميق،

والطبيب يكتب ملاحظاته على ملفه، أردت الرجوع إلى الخلف والعودة بعد أن ينتهي منه، لكن الطبيب قال دون أن يلتفت

_ أدخلي يا آستر فستيل مخدر، لو أن قودزيلا نفسها داست عليه لن يشعر بها.

جلست أمام الطبيب، ومددت يدي إليه بصعوبة، أرجع كمي الطويل إلى الخلف، وظهرت كدماتي الزرقاء على ذراعي، فزع الطبيب فور رؤيتها فقال سريعا:

_ من فعل بك ذلك.

أحسست بالعار، وبدموعي تتوق للخروج من عينيّ، حاولت الصمود لكن دمعة واحدة نجحت في الوصول إلى وجنتي.

مال إليّ، وسأل باهتمام؟

_ هل أنت بخير؟ يا آستر؟

مسحت دمعتي العنيدة وأجبته بصوت بالكاد يتماسك.

_ نعم أنا بخير، إنه جاري الغبي هو حاول أن...

لم أستطع أن أكمل فأخذت نفسا وابتسمت أدعي القوة

_ لكنني سحقت أنفه، وفرّ هاربا كفأر مذعور.

قال الطبيب متعاطفا:

_ أنا آسف يا آستر، لا أحد يستحق أن يعامل هكذا.

أحسست برغبة قوية في البكاء لكنني تمالكت نفسي، وقلت بصوت حاولت أن أكسبه بعض القوة.

_ هل يمكنك معالجتي، إنها تؤلمني بشدة.

_ بالطبع عزيزتي، أيضا لمَ لا تأخذين اليوم إجازة؟ نامي قليلا، يبدو أنك بحاجة لبعض الراحة.

_ شكرا لك، لكنني أفضل البقاء هنا، كرهت شقتي أكثر بعد يوم أمس.

أجاد الطبيب تضميد يدي، وأعطاني بعض المسكنات من مخزون السجن، تعاطفه معي أشعرني بالانتماء لهذا السجن أكثر من أي مكان آخر، أغرب مبنى قد أشعر بالراحة بداخله سجن الخارقين!

انزلق الباب المعدني ليدخل منه "توماس" قائد فرقة العدالة، وجدها مستلقية على سريرها الذي بالكاد يتسع لها فتجلس فور دخوله عليها،

دار في أنحاء الغرفة الضيقة التي بلغت طولها مترين وعرضها متر واحد، يتصل بها باب صغير يؤدي إلى دورة مياه أصغر، قائلا:

_ كيف يمكنك البقاء هنا، إنها غرفة ضيقة وكأنها جحر فأر.

عقدت يديها أمام صدرها، قائلة وهي تنظر إليه من طرف أنفها:

_أعلم هذا وأنا أريد غرفة أكبر بأثاث أجمل.

انحنى ليحمل الألة الكاتبة وقال بخبث عله أن يخيفها:

_ أنت محقة لنذهب إلى غرفة أكبر بأثاث أكثر عصرية.

أحست آستر بخبثه وشكت فيما يفكر فحاولت أخذ الآلة منه قائلة

_ هل تعلم عزيزي توماس، غيرت رأيي أنا أعشق غرفتي أريد البقاء هنا.

تجاهلها حاملا الآلة في يده اليمنى، ويمسك يدها بيده الأخرى.

سحبها بلا مشقة إلى ممر طويل، تترامى الأبواب عن اليمين وعن الشمال، غرف ذات نوافذ واسعة، بداخلها قطع أثاث جميلة ومنوعة، فالأولى تحمل أثاثا كلاسيكيا سرير كبير بزخارف معقدة، وخشب مذهب تغطيه ملاءات حمراء اللون، والغرفة التالية تملؤها قطع أثاث عصرية، سرير أبيض بأطراف فضية اللون تعلوه ملاءات رمادية ووسائد بيضاء وثيرة، صدقته آستر بحسن نية فبلعت ريقها، وأصبحت تسايره في المشي وقالت بكبرياء.

_ أترك يدي ها أنا أمشي معك، كل ما أريده هو غرفة هادئة تليق بسيدة في مكانتي.

دخلا غرفة واسعة، سرير أسود وثير وكنبات بيضاء مريحة، جلست هي على السرير، واستلقت في أعماقه، لتعانق ملاءاته الدافئة وكأنها ترى صديقة مقربة لم تلتق بها منذ عشرات السنين، قالت بتعالي:

_ شكرا توماس فقد أحببت هذه الغرفة هلا أقفلت الباب وراءك.

قال توماس مستهزئا بها:

_ يا له من موقف محرج فهذه ليست غرفتك، إنها غرفتي.

جلست بخوف على طرف السرير وكأنها كانت تعرف أن في الأمر خدعة ما، حاولت التملص من أمامه وكأنه سيسمح لها بالعبور، لكنه أوقفها بيده التي قبضت على ذراعها وأوقفتها وكأنها جبل قد التصق بها ومنعها من التزحزح بعيدا.

قال وهو يجرها بقسوة من ذراعها إلى باب آخر بداخل الغرفة:

_ هذه هي غرفتك.

 ورماها بقسوة بالداخل ثم وضع الآلة الكاتبة بالأسفل.

ألقى عليها نظرة سريعة قبل أن يغلق الباب و يرحل، تركها في سجن أصغر من سجنها الأول "مساحة" متر في متر أشد ظلاما من سابقه، لعنته و هي تتحسس جراحها الجديدة ألقاها بإهمال، وهو صاحب القوى العظمى حتى لو لم يقصد فهو سيؤذيها بأقل مجهود منه، هناك دورات مكثفة ليتعلم أصحاب القوى السيطرة على قواهم منذ نعومة أظافرهم، فهم إن تحمسوا أو غفلوا فقد يقتلوا أقرب الناس إليهم أو حيواناتهم الأليفة، ومعظمهم قتلوا الكثير منها وتوماس كان يقتل حيوان بعد آخر بدون قصد منه، قلبه الصغير كسر عدة مرات حتى امتنع تماما عن متابعة تدريبات التحكم بقواه.

جلس في كرسيه وفتح ثلاث شاشات بزر واحد، كلها أظهرت شخصا واحدًا، آستر جون تغسل يدها في مغسلة الحمام الصغير الذي يفصله باب نحيل عن الخزانة.

ضغط زر آخر ليعلوا صوتها، وهي تقول:

 _ عليك اللعنة يا توماس.

أحس بالذنب عندما رأى يدها تنزف دمًا، فرفع جهازه اللاسلكي ونادى بصوت بارد يخفي مشاعره

_ أليكس تعال إلى غرفتي، وأحضر معك عدة الإسعافات الأولية.

دخل شاب ممتلئ بشعر بني قصير، ساخطا

_ ماذا فعلت الآن.

قال توماس، وقد تسرب بعض التوتر في صوته:

_ لا شيء أنا لم أقصد أذيتها.

تجاهله أليكس، ووقف بجوار الباب، وضغط الزر الصغير لينزلق الباب، فيرى آستر تجلس في ركن الغرفة ممسكة بيدها المصابة، تهذي بكلام غير مفهوم.

حملها أليكس ووضعها على سرير توماس وبدأ بمعالجة يدها، وتوماس يراقبه بصمت على الرغم من أنه القائد لكن أليكس وحده الذي يملك القدرة على الصراخ في وجهه، والوقوف ضد أوامره، أنتهى أليكس من معالجة آستر، وجلس على طرف السرير يوجه حديثه إلى توماس.

_ إنها مصابة بالجفاف أنت تعرضها للخطر، ونحن وكل من يسكن الأرض، إذا هي ماتت فلن يسكت لنا ستيل أبدا، هو لن يتوقف حتى يدمر البشرية عن بكرة أبيها، أنت يا توماس لديك مسؤولية كبيرة فآستر ليست كأي فتاة، إنها ورقة رابحة لنا فلا تحولها إلى لعنة، غادر أليكس وأخذ آستر معه.

راقبه توماس وهو يحمل آستر بعيدا عنه مغتاظا مما حدث، متى سيسيطر على غضبه المتأجج عليها.

_ اللعنة.

يجلس بجانبها يقرأ مجلة عن أخبار الطب الحديث، فيما هي تتابع تنفسها الهادئ مستلقية على سريرها، بذراعها حقنة مغذي لتخفف من جفاف جسدها المنهك، تأوهت بوهن، ورفعت يدها السليمة لتتحسس مؤخرة رأسها، قائلة:

_ آه يا رأسي.

تنبه لها أليكس، ووضع كتابه جانبا، قام من مكانه ليقرب إليها طاولة الطعام الصغيرة.

_عليك تناول كل هذا فجسدك ضعيف ويحتاج إلى الكثير من الطعام.

أزالت أغطية الألمنيوم الرقيقة عن الصحون البيضاء لترى ما ستكون وجبتها الليلة، هل ستكون خبز وماء كما يحضرها لها توماس مرتان في اليوم مع ابتسامة شامتة، تنفست الصعداء بسعادة، قائلة:

 _ وأخيرا، طعام حقيقي.

قطعة ستيك لحم كبيرة مع صحن بطاطا حلوة، وكأس من عصير البرتقال.

رفعت رأسها مبتسمة لأليكس بامتنان:

_ شكرا أليكس.

تناولت طعامها على عجل خوفا من أن يتدخل توماس، ويحرمها من هذه الوجبة الشهية المشبعة كما يفعل حينما تكون تحت مسؤوليته.

قلق عليها الطبيب أليكس من أن تختنق بتسرعها في بلع لقيماتها، وشعر بالأسى على حالها، فقال لها عله أن ينجح في تهدئتها.

_تمهلي آستر لن يضايقك أحد هنا، فاليوم هو لك وحدك، سأوفر لك إضاءة كاملة، وسرير وثير، وطعام وفير.

توقفت اللقيمات في فمها، تذكرت أنها لن تستطيع البقاء في هذه الغرفة البسيطة سوى يوم واحد، وبعدها ستعود أسيرة توماس، ابتلعت أخر لقمة بصعوبة.

قالت، والألم يخرج مع حروف كلماتها:

_ لمَ أصبح هكذا معي، سيصيبني بالجنون.

وتتالت دمعاتها مع ذكرياتها في هذا السجن المجهول تحبس في خزانة صغيرة، فإن لم تتعاون معه، ينقلها إلى خزانته الخاصة، فتزداد جرعات المضايقة منه، وحين تستفزه يفقد أعصابه ويؤذيها، عندها يتدخل أليكس ليمنحها يوم عطلة واحد، ترتاح به من جنون توماس، قاطع أفكارها أليكس وهو يشد على يدها النحيلة.

_أنا آسف، لم أقصد أن أثير حزنك هكذا.

نظرت هي إليه وابتسامة باهتة ترتسم على محياها.

_ لا يا أليكس، أنت جنتي في جحيمي هذا.

 أخذت نفسا عميقا وكأنها بدلت مشاعرها، لتستبدل الكآبة بالحماس، وقالت: أليكس أريد أن أخذ حماما دافئًا لأهدأ، وأريد بيجاما حريرية، وقطعة شوكولا، إنه يوم واحد، وكم أحب أن أستغله قدر ما أستطيع.

سعد أليكس بعودة تفاؤلها، على الرغم من واقعها الحزين، فقال: وقد أعدي بحماستها:

_هذه هي الروح.

وخرج ليحضر كل ما أرادت، ويرتبها لها على الطاولة الكبيرة، بجانب آلة الكتابة القديمة، استعد للخروج من الغرفة الأنيقة، ليتركها تستمتع بما تبقى من يومها، وقف بجانبها ليودعها، قائلا:

_ سأتركك الآن لكن عزيزتي آستر لا تحاولي أن تؤذي نفسك، فأنت مراقبة أربع وعشرين ساعة، وغلطة واحدة ستفسد عليك اليوم بأكمله.

ابتسمت له آستر بامتنان:

 _ لا تقلق يا أليكس فأنا أعرف النظام هنا.

خرج أليكس ليمنحها حريتها المحدودة، دخلت إلى الحمام لترى حوض استحمامها الذي تعشقه حوض صغير أبيض، تملأه بالماء الساخن، وتشعل عدة شموع عطرية معظمها برائحة اللافندر المهدئة، تخلع ملابسها الممزقة لتغوص في حمامها الساخن، تغلق عينيها باسترخاء تسترجع ذكريات سعيدة مع الرجل الذي أحبته وعدو جميع دول العالم.

اللحظات النهائية من لقائهما الأخير، لثوانٍ خشيت من أن تنسى، وهل تنسى العاشقة معشوقها هكذا؟ ردت على نفسها وأفكارها المتشائمة. غاصت مرة أخرى في الماء الذي فقد شيء من حرارته، علّها أن توقف دموع متساقطة من عيناها المتعبتان.

ارتدت بجامتها الحريرية السوداء، سرحت شعرها الناعم بفرشاتها العاجية، تأملت وجهها المتعب، وجسدها النحيل، يا ترى لكم من الوقت ستبقى أسيرتهم؟ متى سيأتي ستيل ليأخذها من هنا، فيعيد إليها رفاهيتها التي اعتادت عليها، ماذا يا ترى قد يفعل الآن؟ هل يهدد العالم بأسره خوفا على محبوبته! تتناول قطعة شوكلاه فاخرة، تستلذ بكل جرام منها، تضع فرشاتها على الطاولة أمام المرآة النظيفة لتغير مكان جلوسها، فتجلس أمام آلة الكتابة القديمة تتحسس أزرارها التي صدئت منذ سنوات بأصابعها النحيلة، تعتدل في جلستها، وتبدأ الكتابة.

في ذلك المساء الهادئ أجلس على الصوفا القديمة في صالتي الضيقة، أتدثر بعدة طبقات من الملاءات الصوفية المهترئة علّها تدفئ جسدي، كنت على الرغم من غوصي تحت ملاءاتي أشعر بالبرودة تهتك عظامي بلا رحمة، تعطلت المدفئة القديمة مرة أخرى، وصاحب المبنى لا يجيب على اتصالاتي، أتابع مسلسلي المفضل القديم (الانتقام) الأحداث المتفاعلة تشغل تفكيري عن مدى برودة أطرافي، يرن الهاتف برنات متقطعة تعبر عن خلل فيه هو الآخر، لعله مالك المبنى سيرسل أحدا ليصح لي المدفئة، لكنه لم يتصل بي إلا ليقبض ثمن الإيجار، أوه من "سامي" الرجل الطويل الجشع، أقوم من مكاني سريعا لأختطف الهاتف، وأعود إلى مجلسي بنفس سرعتي بئسا قد فقدت الكثير من دفئي، أضغط زر الإجابة بسرعة كي لا يقفل الهاتف.

_ مرحبا.

يجيب صوتا متزنا من الجهة الأخرى للهاتف

_ مرحبا هل أنت الانسة آستر جون.

أجيبه مستعجلة

_ نعم إنها أنا.

_ أنا أسف لأخبرك بهذا الخبر لكن قريبتك هولي جون توفت، وقد كتبت وصيتها وهي تتضمنك، في الحقيقة أنت الوحيدة التي تضمنتها وصيتها.

اعتصرت عقلي محاولة أن أتذكر تلك القريبة لكنني لم أسمع بها يوما، بل أن والداي كانا يتيمين وحيدين تنقلا عبر دور الرعاية والمنازل المختلفة، حتى بلغا الثامنة عشرة من عمريهما، ودرسا بصبر وعزيمة  ثم تزوجا، من الغريب أن أرث مالا من أحد ربما كانت غلطة أحدهم،  لكنني لن أرفض ما قد سيق إلي من رزق.

أجيبه وكلي أمل بمبلغ مالي يتكفل بشراء مدفئة صغيرة لي.

_ ومتى يمكننا قراءة الوصية.

أجاب هو سريعا:

 _ الأن لو أردت.

أجبته بلهفة

_ نعم نعم، أين أقابلك؟

قال، وكأنه يبتسم من ردة فعلي:

_ أنا بالأسفل أنتظرك في سيارة مرسيدس حمراء.

اندهشت من سرعة ما يحدث بهذه البساطة، أستلم ورثي وكأنه حلم من خيال وصل بوقته.

_سألته هل أحضر شيء معي أوراق رسمية؟

_ بطاقتك الشخصية تكفي.

_ حسنا سأنزل في ثوانٍ.

خرجت من مخبأي وارتديت معطفي الجينز ذا الموضة القديمة، وأخذت مفاتيحي ومحفظتي الصغيرة، وخرجت وأنا أنفخ الهواء الدافئ في كفي الباردتين، كانت ثوان حتى دخلت سيارة المحامي، كان يبدو في مستهل الأربعينات، ترى آثار الثراء في محيا وجهه الهادئ وثيابه الفاخرة، أحببت رائحة سيارته العطرة ودفئها الآمن، ابتسمت له ومددت يدي.

 _ أنا آستر جون.

صافحني وهو يقول بابتسامة واسعة.

_ ماثيو رولاند.

أخرجت له بطاقتي وسألته؟

_ متى يمكنني أن استلم المال.

أحسست بسخافتي حين خرجت كلماتي من فمي، تلك السيدة قد ماتت للتو، وها أنا أستعجل مالها.

قلت باستحياء

_ أعتذر فقد نسيت أخلاقي، لكنني أكاد أتجمد في شقتي وكنت أمل بشراء مدفئة صغيرة.

أبدى لي السيد رولاند تعاطفه معي بابتسامة حانية، وقال:

 _ لا يمكنني أن ألومك فدرجات الحرارة تتناقص سريعا، لكنني لا أظن بأنك ستحتاجين إلى مدفئة، فقد ورثت شقة بأكملها في أرقى أحياء نيويورك، يمكنك استلامها اليوم إذا أردت ذلك، سآخذك إليها لأسلمك إياها قانونيا.

لم أستوعب كلمة مما قاله هل سأترك هذا الحي المخيف، كنت أُمني نفسي في اليوم الأول الذي انتقلت فيه إلى هنا بأنني سأعتاد الحي في بضعة أسابيع، لكن عدة سنوات قد مرت وها أنا لم أرتح أنام مساء نصف مستيقظة، وأتفقد قفل الباب عشرون مرة في اليوم.

يقاطع تفكيري المحامي.

_ إذا أردت إحضار ملابسك وحاجياتك سأنتظرك هنا.

أجيبه بسرعه خوفا من أن يغير رأيه

_ نعم بالطبع سأعود سريعا.

خرجت من سيارته مهرولة إلى شقتي لم أمتلك حقيبة سفر أو حتى حقيبة كبيرة فوضعت جميع ممتلكاتي في كيس قمامة واحد، معظمها ألبومات الصور لي ولعائلتي، أما الثياب لم تكن سوى كومة ضئيلة، عدت إلى سيارة المحامي الذي كان منشغل بمكالمة هاتفية وضعت الكيس في المقعد الخلفي ثم جلست بجانب المحامي الذي كان منشغلا بهاتفه.

 _ نعم ستستلمها اليوم، سأفعل بالتأكيد إلى اللقاء.

ثم أدار وجهه إلي بابتسامة عريضة.

_ هلا ذهبنا.

أجبته وكلي حماسة:

 _ نعم بالتأكيد.

تحدث عن روعة الشقة، وأن لها ذلك المطل المذهل على نهر الهدسون، غفوت على كلماته التي بدت لي كصدى يتردد من بعيد، صحوت على صوت السيد رولاند

_ أنسة آستر وصلنا إلى شقتك.

 أوقف سيارته بداخل مواقف سيارات واسع كان يقع تحت المبنى الكبير الذي يعلونا، أدرت نظري حولنا فبدا لي وكأنه معرضا لأفخر أنواع السيارات الرياضية، لامبورجيني، بي إم دبليو، بوقاتي...

تذكرتها كلها بسبب والدي، يملك حبا عظيما لهذا النوع من السيارات، علمني أسمائها قبل حروفي الهجائية، وكان دائما ما يعدني بشراء واحدة لنتنزه بها في الطرق السريعة كعائلة... عائلة سعيدة.

_ هذا هو الموقف الخاص بشقتك.

كان ذلك ليكون مثاليا لو كنت أمتلك واحدة، خرجنا من سيارته، وعبرنا على الرصيف بخطوات سريعة، أمرر أصابعي بخفة على كل سيارة فارهة، أمر بجانبها علي أن ألتقط شيئا من حظها، يتوقف أمام مصعد ذو أبواب فضية من أصل ثلاثة مصاعد، تحت أرجلنا طبقة سميكة من الرخام المتموج ما بين الأسود والرمادي، وفوق رؤوسنا زخارف هندسية عصرية نحتت من الجبس الأبيض.

دلفنا إلى المصعد فور انفلاج أبوابه، يضغط على الزر الذي يحمل الرقم عشرة، يتوقف المصعد لنخرج منه إلى ممر فاخر فرش بسجاد إيراني أزرق نقش باللون الذهبي نقوش دائرية ملفتة.

جدرانها زينت بإضاءة هادئة، قممها تشبه المظلات الصغيرة بلون رمال الصحاري، أوه يا آستر لو كان هذا الممر منزلك لرضيتي به، فما الذي سينتظرنا بالداخل! رصت على الممرات ستة أبواب، ثلاثة تقابل ثلاثة أبوب بنية، صنعت من خشب السنديان، ناولني هو مفتاحا فضي اللون وأشار إلى الباب الذي يحمل الرقم5ج، أخذت المفتاح منه بأصابع متلهفة، فتحت باب شقتي الجديدة، منزلي المستقل، امتلكه أنا وحدي بالكامل، أعيد الفكرة في رأسي مرارا وتكرارا خشية أن يكون حلما جميلا!

عبرنا الباب الرئيسي المؤدي للشقة الفارهة، ومن ثم بدا لي المدخل البسيط ذو المرآة الطويلة التي بجانبها ثلاثة أعقفة خشبية لتعليق المعاطف والحقائب والقبعات، إن امتلكت واحدة، وهذا ما أنويه سأشتري قبعة فرنسية جميلة أرجوانية وسأعلقها هنا، تبعته إلى الصالة حيث يقبع طقم من الأرائك العصرية التي اكتست اللون الأبيض يحيطه من جهتين جداران من الزجاج ليكشف لنا عن مطل مذهل على نهر الهيدسون. 

اقترب السيد رولاند من الحائط الزجاجي متأملا السحب المثقلة بالأمطار، ثم يقول:

 _ يبدو أنها ستمطر الليلة، اقتربي وتأملي هذا المنظر الخلاب.

كنت منبهرة من جمال ورفاهية الشقة، لكنني مرتعبة من العلو الشاهق التي تقبع بها، فقدماي قد شلت في المكان الذي يؤمن عقلي بأنه آمن لي، وقفت على طرف السجادة عجزت أن أدوسها خوفا ورهبة، قلت له بصوت محرج خافت:

_ لا أستطيع، فأنا أكره المرتفعات.

تعجب السيد رولاند من جملتي، فقال في انبهار رافعا كلا حاجبيه إلى الأعلى:

 _ يا لها من صدفة سيئة فأنت تمتلكين مطلا رائعا هنا، لكن لحسن الحظ يوجد حلا لهذه المشكلة الصغيرة.

أقترب مني وأشار إلى الجدار خلفي.

_هنا توجد شاشة ذكية لتتحكمي بكامل المكان، سأسدل جميع الستائر في الشقة حتى تشعري بالراحة في منزلك الجديد، وفي وقت قصير لن تتذكري بأنك في هذا العلو.

شكرته بامتنان فبالفعل شعرت بالراحة الفورية حين أُسدلت الستائر حولنا.

وضع ملف أزرق فوق طاولة القهوة الزجاجية، وأشار لي على عدة أماكن علي التوقيع عليها لأمتلك الشقة رسميا، وقعت و أنا أسرح في خيالي، وأخيرا مكان دافئ كم أتوق للنوم الآن، وربما حمام ساخن يعوض عني عدد المرات التي لامست المياه المتجمدة جسدي، أخذ السيد نسخة من الأوراق الموقعة وناولني النسخة الخاصة بي، وتمنى لي ليلة هانئة ثم غادر، أقفلت الباب خلفه بالمفتاح عدة مرات، عاداتي الحذرة لا تزال تلازمني، عدت إلى الكيس الأسود الذي يحتوي جميع ممتلكاتي، أخرجت ألبومات الصور وأنا أجلس على الأرضية الخشبية، هاهي ذكرياتي القديمة مع والداي حيث كنت آمنة تماما، لم يكن منزلنا بنفس مستوى هذه الشقة لكنه كان مليء بالضحكات السعيدة، والوجبات العائلية الدافئة، على الرغم من الراحة التي أحسست بها إلا أن دموعي سالت ببطء على وجنتي، لم أستطع كتمان حزني الآن، ليس بعد أن زال قلقي عن كيفية إبقاء جسدي دافئا وآمنا، بكيت وبكيت حتى استلقيت بجانب صوري وذكرياتي السعيدة وغبت في نوم عميق.

استيقظت على غير عادتها، على أرضيةٍ خشبيةٍ مغمورةٍ بالدفء، نظرت إلى السقف الأبيض الخالي من الشوائب والأغبرة، ابتسمت بسعادة ثم تمغطت لتشد كل عضلة في جسدها النحيل.

صعدت إلى الدور الثاني من الشقة حيث تقبع ثلاث غرف نوم واسعة، اختارت أكبرها التي توسطها سرير خشبي كبير عليه عدة طبقات من أغطية الحرير، والقطن، والصوف التي تنوعت في ألوانها ما بين الزرقاء والبيضاء والكُحلية، بدا لها النوم هنا مثاليا، واتجهت إلى الحمام الذي فصل بينه وبين غرفة نومها ألواحا زجاجية ضبابية، ليس لديها الوقت لتتجول في الأنحاء لتتأمل حسن ورفاهية منزلها الحديث، عليها أن تأخذ حماما ساخن لتستعد لعملها، وتزيل كل ما قد التصق بها من شقتها القديمة بالمياه الساخنة، ارتدت أجدد ما لديها بنطال جينز سماوي اللون، وقميص قرمزي وارتدت معطفها القديم، نظرت طويلا في المرآة الطويلة و قررت أن المعطف لا يضيف جمالية إلى مظهرها كما أنها أُحرجت من مظهره الرث فخلعته وطبقته تحت يدها، ستلبسه فور خروجها من المبنى حالما تبتعد عن عالم الأثرياء المتأنقون هنا.

بعد الساعة العاشرة صباحا..

      أخرج كيس الطعام الورقي الخاص بي من الثلاجة البيضاء الشاحبة التي تقبع بجانب باب المطبخ الصغير، حيث يسمح لنا بصنع القهوة والشاي وحفظ أطعمتنا التي نحضرها من منازلنا، وربما إعادة تسخينها في ميكروويف صغير قديم، يرقد على سطح دواليب المطبخ الرخامي، بجانبه علبة معدنية خضراء، تحمل أنواع مختلفة من الشاي والقهوة، وعلبة خزفية صفراء تتخذ شكلًا أسطوانيا تحفظ لنا في بطنها السكر، كان مطبخا عمليا بحجم خمسة أمتار في أربعة، تتوسطه طاولة دائرية تدس في جانبيها أربع كراسي خشبية، لعلها عادة سيئة الآن، لكن والدتي لم تكن تستأمن طعام الكافتيريا علي منذ صغري، ربما علي يوما ما ترك هذه العادة السخيفة، وتجربة ما يأكله بقية الموظفون هنا.

        اختار الجلوس على مائدة خالية بعيدا عن مصدر الطعام هنا، كافتيريا صغيرة يعمل بها السيد "أوغست"  وبالتالي بعيدا عن أفراد مجتمع السجن، صالة الطعام واسعة، تحمل أربع موائد خشبية، كل منها يحوم حولها مقعدان خشبيان طويلان، لهما القدرة على أن  يحملان على الأرجح ستة أشخاص، أجلس في الزاوية بعيدا عن الأحاديث الجانبية، وبالتأكيد عن العسكري "بين" لم أعرف لمَ، لكنني لم أرتح له بكل مرة ألقاه ملامحه تبدو أكثر لؤما، ليس واضحا للعيان، لكنه إحساس بحجم حبة العدس في ثنايا قلبي، لست اجتماعية بطبعي لكن ملامحي وتعابير وجهي تدعو الآخرين للجلوس معي أو حولي، أولا تجلس بجانبي "كارين" تعشق الحديث عن الآخرين حتى أنها لا تلقي التحية بل تفشي الأسرار فور ارتطام طعامها بالطاولة، انهيت طعامي على مهل بينما استمع لحديث كارين عن الجميع، يخيل للمرء أنها تحرق سعراتها جميعها بالكلام فقط.

_ اليوم سنتناول الكيك بمناسبة تقاعد العجوز "روبنسون"، سمعت بأن زوجته مريضة لهذا طلب التقاعد مبكرا.

ثم تأخذ نفسا عميقا، وهي تزيح شعرها الأشقر عن عينها لتتناول لقمة صغيرة من وجبتها المعتادة سلطة "سيزر دجاج"، اعتدت ثرثرتها الغريبة حتى أني أصبحت أجدها مهدئة للمزاج في غالب الوقت، وأكثر ما أحبه فيها صحبتها المسلية، التي قد أحتاج بعدها إلى حبة إسبرين، تكمل بعد أن تبلع لقمتها:

_ لا أعلم من المسكين الذي سيعمل هنا لعشرون سنة، فعمال النظافة لا يتاح لهم النقل كبقية الموظفين، فهم ليسوا إلا أصحاب شهادات دنيا.

       ذكرتني بوالدي المنومان في المشفى، فلهما فقط دخلت هذا المجال، وإلى الآن لم يمنحني المدير الوقت لتقديمي لمعاملات النقل، أكره تجاهله لي باستمرار، أسرح في أفكاري بعيدا عنها، وعن صوتها، لكنها ما تزال تتحدث بكلام لم أعد أفقه منه شيئا، كم أشعر بالذنب لأنني بعيدة عنهما، يقطع تفكيري غناء مفعم بالمرح للعجوز روبنسون إذن بالفعل إنه اليوم الأخير له، يجتمع الجميع حوله ليهنئه بأيام التقاعد الهادئة التي سيحظى بها، ويودعونه في نفس الوقت، لم أعرفه حق المعرفة، لذا فضلت البقاء مكاني ومراقبة احتفالهم القصير من بعيد، تقدم إلي  العسكري بين بخطوات سريعة وهو يحمل صحنين بهما قطعتين من الكيك المزين بالكريمة البيضاء.

وضعها أمامي بابتسامة واسعة، قائلا:

_أحضرت نصيبك كي لا يفوتك الكيك اللذيذ.

 ثم يهمس لي بمرح:

_ فهم وحوش مفترسة عند الحلويات.

شكرته بأدب وتناولت قطعة من الكيك الطري بالشوكة البلاستيكية.

جلس بجانبي وهو يستجمع شجاعته لقول شيء ما، أستطيع أن أرى هذا في عينيه المتوترتين، رباه لا تجعله يدعوني إلى العشاء...

قال بصوت مرتبك وهو يحملق في صحنه:

_ أود أن آخذك يوم الخميس إلى العشاء، مطعم إيطالي جديد.

كنت أعلم بأنه سيفعلها، كيف سأرفض! بالفعل أنا لا أود الخروج معه، بل أنني لا أطيق حتى الجلوس بجانبه، إنه مريب لا أرتاح له، سأخبره بأنني مرتبطة نعم مخطوبة، هكذا أفضل، عذر قوي لن يرفضه، وسيدفعه بعيدا عني

بلعت ريقي لأستجمع شجاعتي أنا الأخرى، وأقول:

 _ اعتذر سيد بين، لكنني مخطوبة، ولا أظن بأن خطيبي سيرضى بهذا الموعد.

   نظر بحدة إلى يدي اليمنى وقال عاقدا حاجبيه:

_ لكنني لا أرى خاتما.

يا للإصرار المخيف، لكني لحسن الحظ تذكرت أمر القوانين هنا.

قلت وأنا أخفي يدي بداخل جيب بنطالي الأبيض،

_إنهم لا يسمحون لنا بإبقاء مجوهراتنا.

عيناه البنيتان تسلل لها شيئا من الاحمرار، الدماء الهائجة تدفقت إليها ليصير وجهه لا يطاق النظر إليه، نظراته الغاضبة تتهمني بالكذب، أسنانه بدت وكأنها تصتك ببعضها.

_ حقا.

   غادر غاضبا حتى أنه ترك صحنه بجانب صحني، أفقدني شهيتي بتحقيقه غير المهذب لكنني مرتاحة بأن موضوعي معه قد انتهى.

                                         

صباح اليوم الثاني قمت بكسل، فكم أرغب بالاختفاء عن وجه بين اليوم، أتمنى حقا ألا يكون مسؤولا عن ستيل هارت فالحارسان الآخران الكارهان لي يبدوان أكثر لطفا مقارنة بنظرات بين.

                                     

لكنني سأرى ستيل في المقابل، قضية نصف الكأس المملوء هذا ما علي الإيمان به، ما هذه الحرارة في وجنتاي هل تتورد بهذه السرعة، إنها تفضحني كل مرة أفكر فيه، أو أقابله فيها، أو لعله يعتقد أنها طبيعتها، أتمنى حقا ألا يلاحظها.

لا وقت أضيعه تأخري في عملي لن ينقذني من المواقف المحرجة،

سأغتسل سريعا وأخرج من هنا.

       أقطع بهو المبنى الراقي بخطواتي السريعة، أمر من بين الأثرياء المتباطئون لعلهم ورثوا ثروتهم كوضعي، لكن ربما أبكر، فهناك نوعا آخر منهم، حاسم في خطواته حازم في نظراته، إنه النوع العصامي الذي يعرف معنى أن تكون محتاجا، أو لعلهم يشعرون بالأمان الذي عشت بدونه فاعتادوا عليه، أم أنا التي تستعجل كل خطوة في حياتها، متجاهلة زقزقة العصافير وتفتح أزهار الربيع وكأنهما مجرد حدثان أهملهما ولا أتمتع بهما فيما غيري قد يتغنى بأشعاره عنها وينسج قصص العشق حولها.

أشتري من المحل القريب من شقتي قهوة بالحليب وقطعة متوسطة من الكوروسان المحشي بالجبنة، لأتناولها في الطريق الطويل الممل إلى السجن.

ألقي التحية كعادتي على حارس البوابة السيد ميغيل، الكهل الطيب ذو الأصل اللاتيني، ويعيدها لي بابتسامة مطمئنة، يسمح لي بالمرور فور رؤيته لأوراقي الرسمية.

أدخل المبني بخطوات متباطئة، المدخل واسع تنصفه بوابة متوسطة الحجم حديدية ذات نوافذ زجاجية كبيرة، تفتح فقط من الداخل أو بمفتاح خاص لا يملكه إلا ثلاثة أو أربعة حراس.

أحاول اقتناص بين لأتجنبه قدر المستطاع.

لكني أفاجأ به يقف في الداخل يتكئ على المكتب الصغير الأسود، وقسمات وجهه تعلن نيته العارمة في الانتقام، ابتسامة خبيثة تزين شفتيه، عينان ماكرتان ترمقني بخسة، وعود أسنان خشبي يداعب فمه بحرية، هذه المعلومات تكفي لأحزر فيما يفكر فيه، وضعت يدي لا إراديا داخل جيب سترتي البيضاء، عدلت من حقيبة يدي في محاولة مني لأخفي ارتباكي، وسألته من خارج البوابة.

_ أين ربيكا؟

ضغط على زر أحمر على الجدار فيما ابتسامته تتسع حتى ظننت بأنه سينفعل ضاحكا.

_ أنا متعب قليلا لذا اقترحت على المدير أن نتبادل الأماكن.

ناولته حقيبتي باستسلام أخذها ونظرة الانتصار ترتسم على شفتيه، فأحسست بأنه رجل مريض، اللؤم والحماقة علته، فتح سحابها الوحيد، وقلبها رأسا على عقب راميا بمحتويات حقيبتي على الأرض، قائلا:

_عذرا فأغراضك مخالفة للأنظمة والقوانين.

مفاتيحي، هاتفي، مرطب شفاهي، وأقلامي، ودفتر ملاحظاتي الذي لم أستخدمه يوما، والكثير من أغراضي التي أشعر بقربها بالأمان، قد يبدو هذا سخيفا لكنه إحساسي وبالكاد يكفيني، الإهانة والعجز معا تحتويني بلا استحياء وكأنهما اعتادتا جسدي وكأني حق من حقوقهما.

 رفعت صوتي علّه يخشى عواقب فعلته ويتراجع عن حماقته

_ أنت تعتدي على حقوقي سأرفع شكوى ضدك.

قال ببرود، وهو ينظر إلى الكاميرات الثلاث المعلقة في زوايا الصالة:

_ ومن سيصدقك جرذ لئيم قد قطع أسلاك كاميرات المراقبة.

 فقدت السيطرة على ثبات يدي المرتعشة، وكأن البرد ينهشني لكنه الغضب يستنفر كل أوصالي، وأحسست بضعفي وأنا أقول:

_أنت كاذب.

 ثم يقاطعني هو ويمد يداه إلى كتفيَّ.

_ علي أن أفتشك كي أتأكد بأنك لا تهربين لأحد شيئا، الحارس سوير قال شيئا عن احتمال نشوء علاقة بينك وبين أحد السجناء.

تراجعت إلى الوراء لحماية نفسي منه معترضة عليه، إنه لمن المخزي أن تحمل كل ذلك المقدار من الغضب دون أن تمتلك القوة للدفاع عن شرفك، حقوقك، كرامتك.

_ أحظر ربيكا إلى هنا لن أقبل بغيرها.

قال بلهجة ناعمة وابتسامة خبيثة

_ ربيكا لديها يوم حافل وإن لم أفتشك اليوم سأكتب تقريرا عنك، وسيتم فصلك خلال ساعات قليلة.

لا لا يمكن أن أفصل أنا بحاجة لهذه الوظيفة، من سيُعينني في مشفاه بعد أن أُفصل من هنا، حتى القانون سيسحب شهادتي اعتراضا على تصرفاتي، سيبدو لهم بأنني عنيدة ومهملة.

سمعت صوت أحدهم من خلفي يقول بحزم.

_ أكتب ما تشاء لكنك لن تلمس هذه الآنسة.

ألتفت خلفي ووجدته يحمل ملفا صغيرا يرتدي قميص أخضر عشبي، وبنطال جينز أسود، وحذاء رياضي أسود، تعجبت منه فلا يبدو أنه يعمل هنا من هيئته بل يظهر لي وكأنه زائر.

 هاج بين غاضبا فَعلا صوته واحمرت عيناه.

 _ كيف دخلت إلى هنا، هذه منطقة محظورة.

قال الشاب الأشقر وهو يركز عيناه الزرقاوان بإصرار على بين:

_ أنا أعمل هنا.

قلق بين صار واضحا حتى لأبله مثله، فانتابني قبس من الراحة أخيرا، هدأت نفسي، استرخى كتفاي المتشنجان بسبب الموقف الذي وجدته متأزما.

عبر من الباب المفتوح دون أخذ الأذن من بين وهو يبتسم لي:

 _ إنه اليوم الأول.

ثم وضع ملفه على الطاولة الصغيرة بجانب الباب، وجلس يلملم أغراضي ويعيدها داخل حقيبتي، دون أن يعترض بين و قال ممازحا:

_ ما أكثرها من مستلزمات.

انتزعني من حالة الشلل التي أصابتني

فجلست بجواره أعاونه، هدأت يداي وصارت ترتجف بدلا من الارتعاش العنيف الذي أصابها، قال هو لي بملامح جادة:

_ لا تسمحي له بأن يستغلك فالقانون في صفك.

ثم نظر إلى بين بحدة متحديا غروره وحماقته.

_ يمكنك أن ترفعي شكوى اليوم وسأكون شاهدا معك.

إمتقع وجه بين واستشاط غضبا يدعي الشجاعة للحظة:

_ هل تظن بأنك تخيفني؟ أفعل ما شئت.

لدقيقة فقط وقف أمامنا ثم ولى هاربا إلى داخل المبنى تاركا صالة المراقبة خالية على الرغم من أن القوانين تمنع تصرفه، سيوقعه ذلك في الكثير من المتاعب كما أتمنى.

ابتسمت للشاب المنقذ وقلت بامتنان:

 _شكرا لك، لو لم تأتي لكنت رحلت من هنا فأنا لا أطيق أمثاله.

قال وهو يغمز لي بعينه اليسرى التي تعلوها ندبة صغيرة تنصف حاجبه:

 _ أعتبر نفسي شابا محظوظا إذن.

جال بصره في المكان.

_ هلّا أرشدتني إلى مكتب مدير السجن.

 ابتسم بحرج وهو يرفع ملفه 

_ فأنا سيء في قراءة التوجيهات.

رفعت كتفاي بحيرة، وسألته:

_ هل من القانوني أن ندخل؟ أعني أن الحارس ليس موجودا.

قال وهو يتجاوزني إلى الداخل:

_ الباب فتح لنا من الحارس، وليس ذنبنا أنه تهرب من عمله.

ثم هز كتفاه بلا مبالاة، وهو يتطلع إلى الممرات المتشعبة أمامنا.

في الحقيقة أوافقه الرأي فعملي يأخذ الكثير من الوقت، وإن كنت سأنتظر الخسيس بين سأكون مجرد ساذجة، عليه هو أن يتحمل تبعات أخطائه.

ابتسمت للشاب بمودة، وقلت له:

_ هيا بنا إذن.

تبعني يحمل ملفه في يده اليسرى، وقدمت نفسي إليه وأنا أمد يدي مصافحة:

_ آستر جون.

_ كونر مكفاي.

صافحني بقوة آلمت يدي فمازحته.

_ هل تريد كسرها؟

توتر ببراءة وهو يسحبها سريعا.

_ أوه لم أقصد أفعل هذا عندما أتوتر.

(أوه يا آستر الحمقاء، لما تحرجين الشاب الرائع الذي أنقذك للتو)

حاولت أن أنقذ الموقف قلت وأنا أدلك يدي بيدي الأخرى.

_ لا تهتم، هذا دليل على قوة الشخصية، عليك أن تكون فخورا.

واصلنا المشي بصمت، قطعنا الممرات الطويلة، صعدنا الدرجات العديدة، حتى وقفنا أمام باب المدير، فأشرت عليه:

_ هنا محطتك مكتب مدير سجن الخارقين 12 رالف هانس، أما أنا سأعود إلى غرفة الخزائن.

شكرني بأدب، ودخل إلى غرفة المدير بعد أن طرق الباب ثلاثا.

غادرت فورا إلى خزانتي الصغيرة، أخذت ما أحتاج إليه بعجل، وركضت إلى عيادتي، لعل السجناء في حالة تذمر بسبب تأخري، دخلت إلى عيادتي فوجدت سجينا ينتظرني والحارسان يتحدثان بصوت خافت وهما يتبادلان النظرات فيما بينهما وإلي خارج غرفة الكشف، أحدهما الحارس سوير إنه من أصحاب الرياح يسير حيث تسير، فإن عابوا أحدهم عاب معهم و صار أشدهم سبا، وإن مدحوا مدح حتى صار أحسنهم ثناءً، إنه بلا شخصية يوافق الجميع بلا رأي يخصه، لكنه لا يهم هو كذبابة وحيدة مزعج لكن لا يضر.

  أحسست بطاقاتهما السلبية اتجاهي، فعرفت أنهما يتحدثان بالسوء عني، نظرات البغض لا يمكن أن أخطئ تأويلها، تأثيرها السيء يصل إلى قلبي فيؤذيني، دخلت إلى مكتبي دون أن ألقي التحية و بدأت عملي، كان يوما مزدحما فالطبيب إدوارد أيضا مـتأخرا هذا الصباح، ربما لن يأتي فقد سمعت منه أنه اقترب موعد ولادة زوجته "إليزابيث" كان شارد الذهن  في اليومين الأخيرين، بالتأكيد سيتم تقاسم العمل بيني وبين كارين، فعلا في خلال بضع ساعات وصلنا الخبر أن الطبيب إدوارد قد أصبح أبا للمرة الثالثة، من الجيد أنه تمت ولادة زوجته بسلام، فقد كان يخشى تبعات ضغطها المرتفع مؤخرا، أظن ما سيحدث الآن أنه ستلغى فترة الغداء، و ربما إذا اضطررنا سنعمل طوال المساء، فمسألة تأجيل الحقن الخضراء ليست بالأمر المقبول أبدا، مرت الساعات ببطء مهول، السجناء يتلكؤون في خطواتهم ويتذمرون من فترات الانتظار الطويلة، والحراس صاروا أكثر عنفا، وقسوة، وأنا منهكة وجائعة.                      

الساعة الحادية عشرة مساء...

تنتهي كارين من عملها فتغادر وتشير إلي تودعني وأنا لم يبقى لي سوى ستيل يدخل بثقة كعادته، يجلس على السرير ويتفقدني بعينيه السوداوين:

_ هل أنت بخير؟

لعله لمح آثار يومي الطويل ينعكس على وجهي، أجبته وأنا أجهز الحقنة الخضراء.

_ فقط متعبة.

_ فقط لو كنت أملك القدرة على تسهيل عملك لك.

ابتسمت له عن طيب خاطر فأنا أصدق كلماته، لطالما كان ذو لهجة لطيفة، ليس مع الجميع لكن معي هو دائما بأفضل مزاجاته، أعقم بقعة صغيرة على كتفه أحسست بحرارة جسده، فسألته:

_ هل أصابتك الحمى أنت ساخن.

_ إن كان هذا يعني المزيد من الوقت معك، فنعم.

لا يبدو مريضا فوجهه يشع صحة، لكن علي أن أتبع الإجراءات اللازمة.

_ فقط خافض حرارة ومضاد حيوي سيفي بالغرض، وبعدها يمكننا حقنك بالسائل الأخضر.

وضعت له الأقراص في يده وناولته كوب ماء.

_كيف وجدت مسكنك الجديد.

جلست أنا على الكرسي الخاص بي متعجبة منه!

_ وما أدراك عنه؟

_ الممرضة كارين رأتك تخرجين من مبنى فاخر، كانت تتحدث مع أحد الحراس، رجلا ذو شعر أحمر.

_ حقا؟ كنت أعلم بأنهما مهتمان ببعضهما منذ أن رأيتهما.

قال وهو يغمز لي بعينه اليمنى هامسا:

_ عصفورا حب غيرنا في هذا السجن إذن.

أعلم بأن وجهي بدا يحمر بسرعة، أشعر بحرارة وجنتيّ، وخجل عارم يُغلفني، علي أن أغير الموضوع نظرت إلى ساعتي، بقيت عشرة دقائق حتى يحين موعد حقنته و يغادر، أتذكر شقتي نعم إنه موضوع جيد بعيدا عن الحب، فقط أبواب وحيطان وأثاث لا حب ولا هوى بينهم.

_ الشقة أحببتها، إنها حتى أجمل من مجلات الديكور، والأهم أني شعرت بالأمان للمرة الأولى منذ سنين.

توهج وجهه بالسعادة أنفرج فمه باسما، حتى ظهرت أسنانه كصفا لؤلؤ مصفوف، وعيناه تلمعان بحماس، أعلم بحق بأني أحببت منظره هذا، لكنني ارتبت في أمره فاقتربت منه بحذر، وهمست:

_ هل لك يد في الموضوع؟

وقف أمامي منتصب الظهر رافعا ذقنه إلى الأمام، وكأنه انتصر للتو في معركة عنيدة، واعترف بفخر:

_ لم أرتح حينما رأيت الحي الذي تسكنين فيه، أنت تستحقين الأفضل والأثمن والأرقى.

ذهلت من حديثه فابتعدت عنه درت حول نفسي وأخذت نفسا عميقا لأهدأ، عدت إليه أهمس بغضب:

_ هل جننت ماذا لو اكتشف أحدهم الأمر؟ سأتهم بالخيانة!

 يحاول تهدئتي بكلماته المرتبكة:

_لن يعلم أحد أعدك كما ...

  أثار جنوني فقلت بصوت ساخط:

_كما أنك أرسلت من يُراقبني.

باغتني باقترابه مني وأمسك يداي بإصرار، ونظراته تتركز على عيني يحاول جاهدا أن يقنعني، بدا خائفا من أن يخسرني، أوه يا ستيل السخيف أنا لم أكن لك حتى لتخسرني!

_ لا لا، أنا فقط عينت لك حارس شخصيا لحمايتك، فبعد تلك الحادثة أرهقني التفكير، لم أحتمل فكرة أن يؤذيك أحد، لم أنم ولم آكل حتى.

هذا يعني بأنه لم يكن نائما كما قال الطبيب إدوارد، بل كان يمثل دون أن نعلم.

_ لا أصدق بأنك سمعت ما قلته في عيادة الطبيب، هل هو جاسوسك إذن.

علا صوته أكثر

_ لا، أقسم آستر لم أرغب في إغضابك هكذا فقط حاولت حمايتك، أنت تعنين الكثير لي.

لا إنه يفسد الوضع أكثر، سيشكك بي الحراس أكثر، ألا تكفيني نظراتهم وهمساتهم بسبب إطراءاته الغزيرة والآن هذا، علي أن أتخلص منه.

_ماذا تفعل، أترك يدي.

عندها لاحظ الحارسان ماذا يحدث دخلا سريعا ودفعاه بعيدا عني، ثم وجها إليه أسلحتهما، يصرخان بانفعال مهددان

_ استلقي على الأرض الآن وإلا سنفرغ الرصاص على رأسك.

تراجعت أنا إلى الخلف وستيل لا تفارقني نظراته وهو يستلقي على الأرض ببطء، حتى أصبح وجهه مقابلا لأرضية غرف العيادة وجبينه ملاصقا بها.

قيده الحارس سوير بعنف ثم أجبره على الوقوف بعيدا عني.

قال لي الحارس الآخر

_ هل أنت بخير؟

أجبته وأنا أدير ظهري لهما ومحاولة أن أستعيد هدوئي بترتيب أوراق مبعثرة على مكتبي.

_ نعم أنا بخير، هو لم يؤذني.

سوير يلقي نظرات الاتهام المستفزة علي، وهو يجبر ستيل على الوقوف أمامه.

_ هل انتهيت منه لنأخذه بعيدا عن هنا؟

أعلم ماذا يقصد إنه يسخر مني، وكأنه يعلم ما المشاعر التي قد اكنها لستيل، رغم أنني من المستحيل أن أتصرف بناء عليها، مشاعرنا ليست بأيدينا لكننا نتحمل تبعات أفعالنا.

 أجهز الحقنة الخضراء، وأرد عليه بصوت حاولت أن أكسبه بعض القوة عبثا.

_ لا، سأحقنه بهذه ثم يمكنكما أخذه.

اقتربت منه بتوتر، وانهيت عملي مسرعة ليأخذوه بعيدا عني، كان على لسانه كما هائلا من الشروح، والكلمات رأيت هذا في وجهه الحزين، لكنه يعجز عن الحديث بوجودهما كيلا يوقعني في المزيد من المتاعب، ارتديت معطفي وغادرت المنشأة بعجل رأيت كونر في طريقي، داخل ساحة السجن بجانب السور الحديدي،  يحادث مدير السجن أريد أن أخبر المدير عن مسألة شقتي  لكن ليس الآن، فأنا منهكة، ومنزعجة، كما أنه منشغل مع كونر، ينتبه إلي كونر من بعيد  مبتسما يتحدث مع المدير دون أن يرفع ناظراه عني، أشير له مودعة، يرد إلي إشارتي بيده مودعا لي، ثم يبتعد يتجول بعيدا مع مدير السجن.

 اجلس وحيدة في محطة الباص التي تبعد عشرون مترا عن السجن، الساعة الرابعة فجرا والمنطقة تكاد تكون خالية من الأرواح، يقرصني الخوف في أحشائي لكني أتذكر كلمات ستيل: (عينت حارسا شخصيا لحمايتك)

هل حقا هناك من يحميني، أتلفت فجأة لأفاجئ من يحرسني علّي أن أرى لمحة منه، لكن لا يوجد سوى الفضاء الخالي والطريق الإسفلتي الأسود، تترامى على أطرافه عواميد الإنارة البالية، لا أعلم لم يهملون هذه المنطقة ربما لأنهم يخشون كل من هناك فالجميع يخاف مما يجهل وأولهم أنا.

أدخل وحيدة إلى الباص شبه الفارغ، وللمرة الأولى بعد مرض والداي أشعر بالأمان، نعم مازال أمر حارسي الشخصي يغضبني، لكن يمكنني النوم هنا مطمئنة على غير العادة، هل أجرؤ على النوم هنا؟ أغلق عيني المرهقتين فمازال الوقت مبكرا على الوصول إلى المنزل، كما أنه من المستحيل أن أتعرض للأذى ما دمت تحت حماية ستيل، أنفض خوفي بشجاعة وأغفوا بأمان.

أستيقظ على صوت ضربة نالت من زجاج النافذة الملاصقة لمقعدي، أمسح على وجهي بكسل يهم السائق بالتحرك لكنني انتبه لمحطتي فأصيح عليه:

_ انتظر أيها السيد سأترجل من هنا.

أعود إلى منزلي بخطوات بطيئة على غير العادة رغم أن هذه المنطقة تعتبر من أكثر المناطق أمانا إلا أنني لا أرتاح بالمشي فيها في ساعات الفجر الأولى، يا إلهي الساعة الخامسة والنصف فجرا، تبقت لي ثلاث ساعات للنوم فقط، ليتني اختصرت جهدي وبقيت هناك.

أجر الخطى نحو منشأة السجن، وأنا في حالة يرثى لها من الإرهاق، صداع يداهم رأسي ونعاس يهاجم مقلتيَّ، أقابل كارين في غرفة الخزائن، لا تبدو أفضل حالا مني، هي أيضا نعسة ومرهقة، تبتسم لي بكسل:

_ صباح الخير.

_ صباح الخير.

تتذمر بصوت هادئ على غير العادة:

_ ليتهم يدعونني أنام لشهر.

_ أما أنا فأتمنى أن يأتي طبيب آخر حتى لا يتكرر ما حدث بالأمس.

_ بالطبع سيأتي اليوم وأظن أن اسمه "كارل" هذا ما سمعته من حارس البوابة.

عزيزتي كارين حتى وأنت مرهقة لا تملين من استجواب الزملاء، لكنني مسرورة بهذا الخبر قلت بارتياح:

_ حمدا لله.

مضى الوقت بسلاسة فالمساجين اليوم أكثر تنظيما وهدوءً.

وأنا منغمسة في عملي شاردة التفكير بين الحين والآخر بشأن الشقة الفاخرة التي أمتلكها، أنا حقا لا أريد التفريط بها فهي دافئة وواسعة وكل ركن فيها يصرخ فخامة ورقيا، كما أنه بارع في إخفاء الأمر، كل ما يرعبني هي تهمة الخيانة التي تنتظرني حين يكشف السر، وحكم الإعدام حين ينقضي الأمر.

_انتهى عدد القسم الأول من المساجين، يمكنك الذهاب لتناول غداءك الآن آنسة آستر.

قوطعت ضوضاء هواجسي من قبل صوت الحارس وهو يغادر بصحبة آخر سجين لنا.

_ شكرا جاك سأغادر الآن.

قابلت كونر في المطبخ الخاص بالموظفين، يرتدي ملابس العمل الخاصة به، قميص وبنطال رماديين فأبرزا لون عيناه الزرقاوان، نقش اسم السجن على كتفه الأيمن بخيوط سوداء (سجن الخارقين 12) يلقي نكتة على ما أظن لجمع من الموظفين، هذا ما استنتجته حيت ارتفعت أصوات ضحكات من حوله من الحراس والعمال، أستأذن منهم بعد أن رآني وأقبل ليلقي التحية بوجهه البشوش الذي ألفته واطمأننت له:

_ مرحبا آستر.

_مرحبا كونر.

بدا واثقا وهو يقضم قطعة صغيرة من تفاحة حمراء:

_ هلا أكلنا سويا.

أجبته وأنا أفتح البرادة بحثا عن غدائي وهربا من عينيه، فهو بطلي، بالطبع أكن له مشاعر التقدير والامتنان، لكني أشك شيئا أخر يكبر بداخلي، مشاعر أخرى تتضارب في قلبي، وإن كانت ضئيلة مقارنة بمشاعري مع ستيل، أو أن إحساس الولاء يدفعني للبقاء بجانبه، ويُنفرني من تخييب ظنه بي.

_ لا مانع لدي.

تذكرت أنني استعجلت بالخروج ولم أجهز لنفسي شيئا، إحساس الخيبة، والوقوع في ورطة يحتويني، فأنا لم اشتري الطعام من مقر حكومي منذ سنين.

_ أوه نسيت فطوري.

أغلق هو البرادة بعد أن ابتعدت عنها، ربما لن آكل اليوم وجبة واحدة لن تضر إن تفاديتها، كما أنها ليست الأولى.

_لم آكل من الكافتيريا منذ أن كنت في الصف الخامس.

قال وهو يسحبني من يدي بمرح:

_ إنها ليست نهاية العالم، سأشتري لك شيئا لذيذا.

استسلمت ليده الدافئة تقودني كم أشعر بالأمان معه، إنه حقا رجل شهم وبسيط، وقفنا حيث تقبع أنواع الطعام لم انتبه لها يوما حتى، أوقفني كونر أمامها، قال بمرح يقلد طباخا معروفا في برامج التلفاز:

يخشن صوته ويحرك يديه كثيرا في الهواء مشيرا إلى أنواع الطعام المرتبة أمامنا داخل حاويات زجاجية شفافة.

_ لدينا انستي "لازانيا" ساخنة مع حفنة من الذرة الذهبية المطبوخة مع الزبدة، وللتحلية قطعة من كعك الشوكولا.

اضحكني تقليده السخيف وأذهلتني جرأته، زملاؤنا التفتوا إلينا وصفقوا له مهنئين دقة تقليده، فيما هو ينحني لهم كممثل مسرحي، كم أغبطه على روحه المنطلقة، فمن المستحيل أن أفعل شيء كهذا، وإن كان أمام أعز صديقاتي فيما هو لا يفكر بعدد جمهوره، قلت أنا لعلي أنهي الأمر فأنا لا أحب أن أكون وسط دائرة التهريج والكوميديا هنا، أنا لست جريئة مثله.

_ نعم لمَ لا نجرب.

جلسنا في أقصى اليمين، الموضع الذي لطالما جلست فيه وحيدة في أول أيام عملي.

تناول هو لقمة من اللازانيا، ثم قال:

_ولمَ الممرضة آستر تحضر طعامها من المنزل، ألا تثقين بطبخ السيد أوغست؟

_ لا، لكني تسممت بوجبة مدرسية حينما كنت في الصف الخامس، فخافا علي والداي، ومنعا عني تناول الطعام من المدرسة منذ ذاك اليوم، كما أنهما رفعا قضية بعد أخرى على تلك المدرسة.

قال بابتسامة واسعة ممازحا:

_ أمازالا يمانعان ذلك إلى اليوم؟

أخذت نفسا عميقا وسمحت لنفسي للمرة الاولى أن أسرد لأحدهم جزء من شقائي، فكونر يمتلك ذلك الوجه الذي بمجرد ما أطالعه أشعر بسهولة الانفتاح عليه.

_ لا إنهما في غيبوبة بسبب عملها في مجال الأحياء والفيروسات، الشركة التي كانا يعملان بها ترفض البوح بالسبب لأسباب أمنية كما تدعي، كانا قريبان جدا من الموت، لكنهما بخير الآن، كما أنني موقنة باستيقاظهما قريبا، إحساس داخلي يكبر كل يوم يخبرني بأني سأراهما يمشيان ويضحكان كما كانا يفعلان.

شعرت بيده الدافئة تقبض على يدي، ويقول متعاطفا:

_ بالطبع سيستيقظان فالطب في تقدم مستمر، بالأمس قرأت خبرا بأن شابا استيقظ بعد سنة كاملة أمضاها في غيبوبة.

أحببت نيته الطيبة في إزاحة قلقي عن كاهلي وانتبه إلى دموعي الحارة المتساقطة فأمسحها سريعا، وأقول له

_ شكرا كونر أنت تطمئنني.

فاجأتني كارين بجلوسها بجانبي.

_ لا أصدق، هل أقنعتها بتناول الغداء من الكافتيريا؟ لا بد أنها حقا معجبة بك.

حقا ممتنة لأنها لم تنتبه لدموعي أظنها ستحقق معي أمام كونر بلا رحمة عن سببها، أزعجتني بتصريحها العفوي فدست بقدمي على سطح حذاءها معترضة على حديثها، لكنها فضحتني أكثر وكأنها لا تملك أعصاب في أصابع قدمها.

_ هل تعلم بأني أحاول إقناعها منذ أشهر، لكنها ترفض باستمرار ويوم واحد معك أراها تأكل اللازانيا و الذرة الصفراء.

ثم تقهقه بصوت عال، وتغمز لي بعينها وكأنها مهدت الطريق لي مع كونر، رفعت نظري على كونر فوجدته يبتسم بسعادة منشغلا في مضغ طعامه، وكأنه قد فاز بجائزة ما.

أحرجت بشدة فأكملت وجبتي بصمت أستمع لكارين وكونر وهما يتحدثان عن طعام الكافتيريا وكيف أن الشيف الذي يطبخ هنا كانت له خبرة عشر سنين في أرقى مطاعم نيويورك، وعمل هنا بعد أن طرد بسبب إشاعات عن كونه رئيس عصابات سابق، تقول كارين بحماس:



_ أفراد عصابته السابقة حطموا كل شبر في المطعم اعتراضا على تقاعده منهم بعده فصل، وتقدم للعمل هنا حيث كاميرات المراقبة وحراس الشرطة، عندها تركته عصابته في سبيل حاله والإعلام كذلك.

قال كونر ونظرات جادة متألمة تسيطر على كامل وجهه:

_ للأسف الماضي يتسلط على المستقبل إنه قانون من قوانين الحياة الجائرة.

رددت عليه معترضة فأنا لا أؤمن بالحياة الظالمة: نحن من نصنع ظروفنا نحن من نقرر إما أن نظلم و إما أن نعدل

_ الماضي لا يتحكم لوحده بالمستقبل، فقط عندما تستلم له يفعل ذلك.

تنبهت لعلوا صوتي وحماسي الزائد فخجلت من انفعالي، فيما نظر كونر إلى صحنه وقال مستسلما لقضية جدال لا داعي لها:

_ ربما أنت على حق.

قالها ودس لقمة إلى فمه، لينتهي الحديث في هذا الموضوع، وتبدأ كارين بفتح موضوع آخر تنسجم معه.

أنهيت غدائي وتركتهم، علي أن أخبر المدير بكل شيء، وإلا سأخسر حياتي في حال كشف أمري، الإعدام هو حكم التعاون مع ستيل بأي وسيلة كانت، وهذا أمر لا يمكنني المقامرة به.

أقف أمام باب مكتب المدير، أرفع يدي حينا وأخفضها حينا أخرى، التردد يقتلني، أين سأسكن إن صادروا الشقة؟ سأخسر أثمن شيء امتلكته على الإطلاق، ليس مجرد الراحة والرفاهية بها بل الأمان والانتماء الذي سأفتقده حقا إن تركتها لهم.

_ هل ستدخلين؟

يفزعني صوت كونر، فأقمص إلى الخلف في حركة لا إرادية غبية، أرتطم به وأغوص في أحضانه فاقدة توازني، لكنني أتمالك نفسي وأبتعد عنه، فيما هو أحاط كتفاي بيداه مترفقا بي كيلا أقع على الأرض.

_ اوه أعتذر، لم أقصد إخافتك.

ابتسم بإحراج.

_ لا أنت فقط أخرجتني من حالة تفكير مركزة.

مال نحوي، وقال بفضول:

_هل سترفعين الشكوى على الشرطي بين، لأنني سأدخل لأشهد معك.

ابتسمت بحرج وأشرت بكفي نافية.

_ لا كارين أخبرتني بأنه يعيل ابنته ذات الأربعة أعوام، لذا سأنسى الموضوع، فأنا أضمن أنه لن ينسى بأنه مهدد بالفصل في أي ساعة قد أشكوه فيها، كما أنني أستمتع برؤيته يتهرب من المكان الذي تكون فيه.

_ حسنا إذا سأنتظر هنا حتى تنتهين.

_لا من الأفضل أن تدخل، لا أريد شيء منه على أية حال.

وهممت بالمغادرة لكنه أوقفني متقدما إلي بخطوة واسعة، ممسكا بكتفي شعرت بأنفاسه الحارة تنعكس على وجنتاي، هامسا لي وعيناه البحريتان تركز بإصرار على عينيّ:

_ أنا هنا إذا اردت الحديث أو حل مشكلة.

أحرجت وأحسست بضعفي أمامه أردت إخباره بكل شيء، أردت أن أتكل عليه، أن أهديه مشكلتي ليحلها هو وأرتاح أنا لكنني وجدت نفسي أقول:

_ نحتاج أجهزة حديثة في العيادة هذا كل شيء.

أه من عقلي الباطني المتحفظ إلى متى تنوي الاعتناء بكل تفصيل في حياتي، ترك كتفي ببطء، وابتسم بلطف

_ سأرى ما يمكنني فعله.

_ شكرا كونر سأراك في الجوار.

وغادرت الممر الطويل وقلبي يخفق بشدة، هل يعلم بأمر الشقة، أم أنه مرتاب بطبيعته؟ بل أنا المرتابة الآن وما أدراه عنا، إنه حتى لم يتم أسبوعه الأول هنا.

دخلت شقتي بعد يوم حافل من روتين عملي، وجدت الشقة كما رأيتها للمرة الأولى خلعت حذائي الرياضي الأبيض لتلامس قدماي خشب السنديان الرمادي الفاتح، حتى أنا أعرف أن ذلك ملمسا فاخرا مرفها لقدميّ المفلستين.

أرمي معطفي وحقيبة يدي على الصوفا، وأغوص بداخلها وكأنها بأكملها وسادة من ريش النعام، يكفيني النوم هنا دون أن أحتاج لأن أتقلب يمينا أو يسارا، فقط أغوص هنا بأي جهة ارتمي بها، وأغرق في نوم عميق، هل سأركل شقتي بقدمي الفقيرة هذه، ثم إن الجميع يعلم ويؤمن بأن ستيل سيهرب عاجلا أم آجلا، لكنهم يسرون مشاعرهم في دواخلهم، لمَ علي أنا أن أدفع الثمن، وأنا اكثر حاجة لسقف يظللني وغطاء يدفئني؟ وقفت فجأة وكأنني قررت بوقوفي بأنني سأثبت على قراري، أنا لن أتخلى عما أحتاج إليه.

أصعد الدرجات المغطاة بسجادة بيضاء تداعب قدماي بشعيراتها الوثيرة فتقنعني أكثر وأكثر بالتمسك بها.

الثامنة صباحا في قسم العيادة بسجن الخارقين 12

يدخل ستيل غرفة الكشف ويجلس بصمت على السرير.

_ أنا آسف، لم يحق لي فعل كل ما فعلته لك، عندما فكرت بالأمر وجدتني قد عرضتك لخطر أكبر من السابق.

ها هو يشعر بالندم، لكنني أيضا أشاركه الشعور، فأقيس ضغطه وأنا محرجة من مواجهته بتراجعي.

_ لا يا ستيل أنا التي أعتذر إليك، أنت انتشلتني من خرابة باردة وأهديتني مسكن دافئ.

تراخت ملامح وجهه، وسأل:

_وماذا عن الحرس، هل أعطيهم الأوامر بالانسحاب.

قلت بإحراج أكثر:

_ قد أبدوا طماعة، لكنني أفضل بقائهم.

زفر بارتياح وقال بابتسامة واسعة:

_ أي شيء ترغب به آستر ستحظى به آستر.

جهزت الحقنة الخضراء، ورحت أدسها في ذراعه ببطء، أحسست بيده تقبض على ساعدي وقد علت الجدية على وجهه:

_أنت تعلمين بأنني لا أفعل كل هذا لأي أحد، أنا احبك آستر، وأريد حياة معك.

كسرت الحقنة داخل يده من مفاجئته بحقيقة أهدافه معي، وانسكب المحلول الأخضر على ثيابه، كيف له أن يصارحني وهو يعلم من هو؟

_ يا إلهي.

  رفعت بصري عليه وهمست بنوع ما من الحيرة الغاضبة:

_أية حياة وأنت هنا ستعدم بعد ثمانية أشهر.

_ أنت وأنا والجميع يعلم أن هذا مجرد خيال، إنها أمنيتهم التي لن أحققها لهم، سأهرب من هنا يوما ما، وسأعرض عليك الزواج، وعندما تقولين نعم، ستجعلين مني أسعد رجل على وجه الأرض.

أخرجت الإبرة الصغيرة العالقة في ذراعه بملقط حديدي، وجهزت حقنة أخرى أحاول هضم كلماته اللامنطقية، وقلت قبل أن أحقتنه بها:

_ وما الذي يجعلك واثقا هكذا؟

قال بثقة مستفزة:

_ أستطيع أن أرى الحب في عينيك، وفي شفاهك التي تعضينها بلطف حين أدخل عليك، توترك الذي يجعلك تتخبطين بين أدواتك الكثيرة حين أطريك، وجنتيك اللتان تتوردان فور رؤيتك لي.

أظن حقا بأني أحبه، فكلمة نعم تبدو مغرية جدا لكنني لن أمنح له الرضى، كيف له أن يكون واثقا من كل شيء فابتسمت له بتحدٍ، وكأن الأمر لا يعنيني:

_ إذن لننتظر ولنرى ماذا سيحدث، يمكنك المغادرة الآن.

أستطيع أن أرى إحباطه المفتعل،

_حبيبتي آستر لا تكسري قلبي.

ويغادر وهو يغمز لي بعينه، فأشعر بالحرارة تشتعل في وجنتاي لأعلم بأنه محق، هاأنا أحمر خجلا لحركة بسيطة منه، يزداد ثقة بنفسه ويضحك في وجه حارساه الخاصان به، ليأخذاه بعيد عني.

يمر شهر بعد شهر، ومشاعري تزداد قوة كل يوم لستيل، لم نعد نكثر الحديث فقط نتبادل النظرات حتى يغادر عيادتي، مازلت لا أصدق بأنه هو من بين العالم أجمع من أحب، حتى بوجود كونر بجانبي وتقربه المستمر مني، إلا أن قلبي لا يفزّ طربا حتى يدخل ستيل عيادتي، لكني أغتاظ حقا من ثقته العمياء بنفسه، رغم معرفتي بأنه على صواب ألا أني  أستفزه بين الحينة والأخرى، كما أنه من السخف أن أحبه وأخسر كل شيء، وأهمها حريتي و حتما حياتي، ربما كونر هو الخيار الأفضل لي منطقيا، فهو شاب وسيم وجدي في عمله، كما أنه شهم وواضح، أقرأه ككأس ماء صافٍ، لو لم يكن ستيل سيكون حتما كونر.



تحققت من مظهري في مرآتي الصغيرة كل شيء ما زال في مكانه كل شيء مثالي، ما زالت رغبتي بالتأنق تشتعل عندما يحين موعد لقائنا، دخل ستيل بعد أن طرق الباب مرتان متتاليتان، ثم ألقى التحية بوجهه الفاتن وعينيه الآسرتين، التي ما إن تلتقي بعيني أجدها تخترق روحي، فيكتشف حقيقة مشاعري، لكن علي ألا أستسلم سأخسر عملي ما إن استسلم بأفعال ممنوعة قد يلقنها علي قلبي، قال بصوته الواثق:

_ مرحبا آستر جون.

رددت عليه التحية بكل رسمية أخفي لهفتي إلى النظر لوجهه:

_ مرحبا سيد ستيل، كيف حالك هذا المساء؟

رد علي يصطنع الألم ويضع يده على صدره

_ سيئ للغاية فأنا فقدت قلبي على يد ممرضة ذات وجه ملائكي.

حاولت تجاهل كلامه لكني شعرت بحرارة الدماء وهي تتدفق إلى وجنتي لتفضح مشاعري نحوه.

ابتسامة النصر الجذابة تعلو شفتيه، وقال لي بمكر:

 _ ممرضة آستر، هل أنت بخير؟ وجهك محمر قليلا.

كم أكره ثقته الزائدة ففكرت في إثارة غيرته قليلا، بعد أن لففت شريط جهاز قياس الضغط حول ساعده أشرت إلى هاتفي بداخل جيب معطفي الأبيض وقلت له وأنا أتصنع الضحك:

_ كونر أرسل لي تلك النكتة الرهيبة للتو، أقسم أني ضحكت حتى دمعت عيناي.

عبس الإمبراطور ستيل هارت كما يسمي نفسه، وضحكت أنا، بعد أن أدرت ظهري له من يصدق ها أنا أتلاعب بالرجل المطلوب عالميا من جميع الدول والحكومات.

شعرت بهزة خفيفة تحت قدميّ، بعدها انطفأت جميع الأنوار وساد الهدوء المخيف في الغرفة، علمت على الفور أن هناك أمرا سيئا على وشك أن يحدث، شعرت بالخوف، والغثيان استندت على الجدار في محاولة مني للتماسك، اقترب مني ستيل بدافع حمايتي، وقال بقلق:

_ هناك من يريد الخروج مبكرا من هنا، الفوضى ستغمر السجن لكني أضمن لك إن كنت برفقتي لن يتجرأ أحد على وضع يده عليك.

دخل الحارسان بين وماثيو المكلفان بستيل الليلة، يحمل كل منهما كشاف صغير وسلاح من النوع الرشاش المليء بالطلقات الخضراء.

قال الحارس بين:

 _ علينا نقل السجين ستيل هارت إلى الزنزانة الخاصة، هذه حالة طوارئ.

نظرت بغضب إلى ستيل لعله السبب، أما هو فقد فهم نظرتي إليه وقال على الفور:

_ أقسم أنه ليس أنا.

قال الشرطي ماثيو حازما:

_ علينا الخروج من هنا الآن.

خرجنا من قسم التمريض بنظام يثير الإعجاب كان الحارسان مركزان على عدم إثارة الانتباه و تجنب العدد القليل من المساجين المنتشرون بفعل الفوضى، عبرنا الممرات ببطء وصبر، أنا أتبعهما على أطراف أصابعي فيما ستيل يبدو عليه البرود و الملل، يعقد يداه خلف ظهره و يتبع الحارسان بصمت، اقتربنا من باب صغير كتب عليه مؤونة نظافة دخلنا إليها، و أقفلنا الباب بعدها شعرت بخيبة أمل كبيرة فهمست لهما حانقة:

_ حقا أهذه هي الزنزانة الخاصة؟

تجاهلني الحارسان وهما يزيحان دولاب حديدي بعجلات صغيرة، ليتضح لنا طريقا مخفيا، حينها شعرت بسخافة ما قلته، لكنني أيضا أحسست بالأمان وأنا أعبر معهم الممر السري الذي ينيره إضاءة خافتة على طوله لعله يعمل بمولد خاص دخلنا إلى غرفة كبيرة من بعيد ينصفها زنزانة مطورة تبدو بأكملها من الفولاذ السميك، تظهر نافذة هائلة من الزجاج المضاد للرصاص مستطيلة في وسط الجدار، وجه الحارس ماثيو سلاحه نحو ستيل قائلا:

_ أدخل الزنزانة الآن.

قال ستيل بتحدي:

 _ سأدخل إن رافقتني آستر.

قال الحارس ماثيو:

 _ أنت سجين هنا لن تلقي بأية أوامر، فقط ادخل الزنزانة بهدوء ولن يتأذى أحد.

كنت أحس بخوف ستيل علي كان يتحدث وهو ينظر إلي بقلق، في الحقيقة أنا أيضا أرغب بالبقاء معه، فلن يتجرأ أحدهم أن يطلق النار علينا، أو حتى يشتمنا وأنا بجانبه، لكنه القانون لا يمكن لأحد أن يعصي القانون، قطع أفكاري ستيل وقد بدأ يستاء:

 _ إذا وجدوكما المساجين سيقضون عليكما في ثوان، هل تتوقعون بأن أسلحتكم التي تحملونها ستحميكم؟ أنهم مجانين وأقوياء وسريعون حتى أدويتكم لا تبطل سوى خمس وعشرون بالمئة من قواهم، ستطحنون كما لو كنتم حفنة من الفراشات الرقيقة، لا يمكن أن أسمح لآستر بأن تبقى معكما أنا أعدكما بحمايتها سأفديها بحياتي.

تلك اللحظة أدركت مقدار حبه لي، نعم أنه سيفديني بحياته كنت مرعوبة من الظروف المخيفة التي تحيط بنا، لكني سعيدة بكلمات ستيل تمنيت أن أصارحه بحبي لكنه لا الوقت ولا المكان، نعم سأصارحه لكن ليس اليوم.

قال بين وقد رفع صوته معلنا أن صبره قد نفذ:

_ وهل تظننا حمقى لنصدقك! أنت لست سوى لص شوارع صدف أن أمتلك قوى ضخمت أفعاله.

وقتها رفع الحارسان أسلحتها نحو ستيل وفي أعينهما شرر القتال يصرخان به ويأمرانه بالدخول منفعلان، ستيل يقف بعناد أراه يشد على قبضتيه وكأنه ينوي مقاتلتهما، التوتر والخوف غمرا المكان علمت بأن مذبحة صغيرة ستحدث هنا ما لم أتدخل، فهرعت إلى ستيل وقلت له وأنا أكاد أفقد عقلي من هول الموقف، ترجيته وأنا أكاد أذرف أدمعي، وقفت أمامه وأحطت قبضتيه المشدودتان بكفيّ علي أن ألين رأيه:

_ أرجوك ستيل إنها القوانين، أدخل الزنزانة وسأكون بخير.

نظر إلي بعينين محبتين خائفتين وأرخى قبضتيه ليمسك يداي.

_ أنا لا أثق بهما.

همست له أجبر فمي على الابتسام:

_ لن يؤذيني أحد إنه مقر سري لن يجدنا السجناء أبدا، بضعة ساعات وسنكون أحرارًا.

بدت معالم الاستسلام تظهر على وجهه، وهم بالانسحاب إلى داخل الزنزانة لكنني أردت أن أخبره قبل أن نفترق فشددت على يده واقتربت من إذنه، كنت أرتجف كورقة خريفية لكنني تشجعت وقلتها له:

_ أحبك.

ابتسمت له بعد أن قلتها، شعرت بارتياحه لسماعه تلك الكلمة، على الرغم من خوفه الواضح على وجهه، دخل إلى الزنزانة وأغلق الشرطي بين الباب بعد أن ضغط على أربعة أرقام سرية، وقفت أمام النافذة الزجاجية، ووقف هو مقابلا لي، كانت تفصلنا عشرة إنشات من الزجاج المقاوم للرصاص قال هو بابتسامة العاشق، وإن لم تروا ابتسامة العاشق فهو ذلك الفم الذي يحمل طنا من الكلام الممنوع، المحرم، والمحتضر:

 _ أنا أيضا أحبك.

لم أكن أتوقع أن للحب هذه القوى، تلك السعادة التي تشعرني بأني أقف على غمامة بيضاء، كنت أستمتع بتلك اللحظة، لحظة المصارحة بالحب خصوصا أنها مرت بسلام رغم الأحداث المضطربة من حولنا، كم أشعر بالأمان عندما أكون برفقته، وكأنه حلم، وكأننا سنكون بخير.

صوت رصاصة صدر من خلفي فاستدرت إلى ورائي لأرى ماذا حدث، وانتهى الحلم الوردي قبل أن يبدأ، كان بين ممسكا بسلاحه موجهه نحو ماثيو وماثيو المتفاجئ يسقط على الأرض بعنف، ودمائه قد خرجت من ثقب صغير في جبينه، امتزجت حمرة دمائه مع حمرة شعره فأزداد احمرارا ودموية، هالني ما رأيت، لم أفهم لما قد يفعل بين شيئا كهذا فصرخت عليه:

_ ماذا فعلت.

وجه سلاحه نحوي وقال بخبث:

 _ أنا آسف، عرضوا علي الكثير من المال.

صرخ ستيل من ورائي ووجه يحمر غضبا.

_ اقسم إن مسست شعرة واحدة من رأسها سأمزق أطرافك.

تجاهل بين كلام ستيل وقال مبتسما لي:

 _ لما لا تقتربين مني عزيزتي.

أردت الهروب لكن قدماي لا تتحركان شعرت بالزجاج يهتز من خلفي فعلمت بأن ستيل يجاهد للخروج من سجنه، لكن لا أظنه يقدر، عددت إلى ثلاث وغامرت راكضة نحو الباب لكن بين كان قريبا مني فاستطاع أن يلحقني ويقفز خلفي ليمسك بقدمي اليمنى، وقعت على الفور فوق جثة ماثيو، حاولت أن أسحب السلاح من يد ماثيوا لكن بين يجرني بكل قوته لأصل إلى قدما ماثيو، لمحت سكينة صغيرة تلتصق بحزام صغير على ساقه فوق حذاءه مباشرة، فأخذتها وخبأتها تحت يداي أدارني بين بعنف يتأمل وجهي، وهو يجلس فوقي ليصير تنفسي عسيرا، اقترب بوجهه المقرف من وجهي وقال:

 _ كم أحب اللون الأسود مع البشرة البيضاء، قمة التناقض تزيدك سحرا.

شعرت بدموعي الدافئة تمر على وجنتي، أحدنا عليه أن يموت ولن يكون أنا، لم أكن أعلم عندما التحقت بالتمريض بأنني بدلا عن إنقاذ البشر سأقتل أحدهم، كنت واثقة بمقدرتي على القتل فغريزة البقاء تشتعل في جسدي كالنار في الهشيم، وهو لن يتوقعها مني أبدا، انتظرت حتى تحررت يدي من يده التي مررها على شعري برفق فأغرس سكيني في جانبه الأيسر بين أضلاعه، صرخ بألم وهو يشتمني فدفعته بكل قوتي ليسقط أرضا وهو يكيل السباب المر لي، هربت من هناك، ودمائه الدافئة تغطي ملابسي البيضاء، كنت ألهث بشده مما اقترفته يداي، عبرت الممر في ثوان لأدخل إلى غرفة مؤونة التنظيف، لم أكن متأكدة من موته، كنت خائفة من البقاء هنا فيلحقني، وخائفة من مغادرة الغرفة فأجد قطيعا من السجناء، وكلا الخيارين مر، تقيأت كل ما في جوفي، الألم التعيس يسيطر على معدتي، عادت إنارة الغرفة و الممرات فصار من الصعب الاختباء، اهتز هاتفي بداخل جيبي فرفعته بأصابع مرتعشة، إنه كونر رددت له بسرعه:

_ كونر!

قال متلهفا:

_ آستر، هل أنت بخير؟

أجبته بصوتي المرتجف:

 _ نعم. أنا بخير، بين إنه فاسد قتل ماثيو، وأظنه سيلحق بي.

قال كونر غاضبا:

_ عليه اللعنة، أين أنت؟

 _ خرجت للتو من ممر سري خاص بزنزانة ستيل، أنا في غرفة مؤونة التنظيف إنها في ...

قاطعني كونر:

 _ أعرف أين هي، أنا في غرفة مراقبة، سأوجهك نحو الطرق الآمنة لتصلي إلي.

أجبته:

_ حسنا.

علي أن ألتزم بما يقول يبدو واثقا من نفسه، يعرف الكثير من الأمور بالنسبة لعامل نظافة، حتى أنا لم أكن أعلم بوجود غرف كهذه، احترت في أمره لكن لا وقت للتفكير كنت أنصت لصوته عبر الهاتف بكامل تركيزي.

_ اخرجي الآن واتجهي للشمال بسرعة.

فعلت ما يأمرني به، على الرغم من تخيلي بأن خلف الباب ينظرني جيشا من المساجين، لكنه كان خالٍ تماما تنفست الصعداء وحمدت الله.

_ أستطيع رؤيتك بوضوح، سترين ثلاثة أبواب على يمينك أدخلي من الباب الثالث.

دخلت من الباب الثالث وقد كان ممر طويل كنت أعبره هرولة أحاول قدر الإمكان ألا أصدر صوتا يفضح وجودي هنا.

وصلت إلى صالة كبيرة يفصلني عنها باب كبير به نافذة صغيرة كنت أسمع أصوات ثلاثة مساجين.

قال كونر:

_ إنها صالة طعام نزلاء السجن، الباب مفتوح هل ترين الباب الآخر إنه بعيد قليلا ومغلق لكن إذا جريت بكل قوتك سأفتحه لك حتى تعبرين، ومن ثم سأقفله ستكون لدينا دقيقتان بعدها لأخفيك عنهم.

رددت عليه هامسة:

_ لا أستطيع أنا خائفة سيرونني سيمسكون بي إنهم سريعون، نزلت دموعي لتشوش نظري أمسحها بعنف علها تتوقف، وأنا أنظر لكاميرا المراقبة إنه يراني من هناك.

أستطيع الشعور به يتفاعل مع بكائي فأحتقن صوته قليلا، لكنه عاد سريعا إلى حزمه:

 _ أرجوك ثقي بي أستطيع أن أخرجك من هنا.

ارجعي إلى الوراء واركضي بكل سرعتك بكل قوتك لديك فرصة كبيرة في الهروب منهم، ثقي بي.

رددت عليه وكلي إيمان بأنه لن يخذلني:

_ أنا أثق بك.



أدخلت الهاتف في جيب معطفي الدامي، وفعلت ما أمرني و كضت بكل سرعتي عبرت الباب الأول رأيتهم وأنا أركض نظرة خاطفة، من يساري ثم عدت أركز على الباب سمعتهم يصرخون علي يضحكون لعلهم يعلمون أن الباب مقفل يتوقعون بأنهم قد ظفروا بي، لكنه فتح لي عندما دفعته وخرجت من هناك أخرجت الهاتف من جيبي.


_ كونر.

كان منفعلا:

 _ بسرعة اركضي حتى تصلي لباب رمادي اللون، سيكون على يسارك إنهم خلفك سيكسرون الباب في دقيقة.

فعلت كما أمرني سمعت أصوات السجناء وقد كسروا الباب، أخيرا رأيت الباب الرمادي عبرت منه وأقفلته بسكون خلفي.

_اصعدي الدرج ثلاثة أدوار، سأكون في الطابق الثالث.

 صعدت درجات الثلاثة أدوار، وكأن شبحا لئيما يطاردني، وصلت للباب الرمادي الآخر.

_ انتظري هناك سجين بجانب الباب لكنه سيلحق بزميله إلى مكان آخر.

كنت أرى ظل قدماه تحت الباب وأسمعه يقول:

_ قادم إليك.

مرت دقيقة حتى حسبت بأنه نساني، لكنه رد إلي:

_ الآن أعبري الممر سأكون وراء الباب رقم خمسة عليه لوحة مكتوب عليها مستلزمات النظافة.

وأخيرا سأكون مع شخص أثق به، عبرت الممر سريعا، عددت الأبواب باستعجال، وقفت أمام الباب الخامس ليفتح لي فورا، إنه كونر أدخلني معه في غرفة متوسطة الحجم، مليئة بشاشات المراقبة.

بكيت وبكيت تذكرت ماثيو، فقلت لكونر بصوتي الباكي:

_ لقد قتل ماثيو، وأراد أن يؤذيني لكنني طعنته.

احتضنني كونر بحنان، ومسح على رأسي وظهري، فتشبثت به وتنهدت بألم، قال هو يواسيني:

_أوه عزيزتي آستر الحمد لله لأنك بخير، لا تقلقي سنخرج من هنا قريبا.

جلسنا متجاورين يحيطني بذراعه، وأسند رأسي على كتفه، أعيننا تراقب الشاشات الصماء،

قال كونر:

_ اتصلت بالأمن القومي، المكان سيحاط قريبا بالجنود ورجال الشرطة، جميعهم من أصحاب القوى، سنكون بأمان.

مرت عشرة دقائق حتى تنبه كونر على تغير في الأوضاع بداخل السجن، وقف كونر، واقترب من الشاشات بقلق.

نظرت بدوري إلى أعلى إلى الشاشات المراقبة العشرون، أنهم المساجين اكتشفوا الغرف السرية، إنهم يقتحمون غرف الصيانة ومستلزمات التنظيف، يخرجون المدنيين ويقتلون رجال الشرطة إنها فوضى مذبحة.

خرجت من فمي كلماتي بيأس:

 _ يا ألهي سنموت هنا.

تقدم مني كونر، وأمسك بيدي نظر إلى عينيّ الباكيتان بعينين تعلن القوة والعزم، وقال بكل ثقة:

_ لا لن نموت هنا، لن أسمح لهم بالاقتراب منك.

أعجبت بقوته وحسن تدبيره، لكنه رجل عادي أمام جيش من أسوء وأعتى البشر، فكيف له أن يجزم هكذا، رددت عليه:

_ ماذا يمكننا أن نفعل؟

قال وهو يرسم خطة في عقله وكأنه يتذكر خريطة سجن وهمية: 

_ سنختبئ في النقاط العمياء، الأماكن التي لا تظهر على كاميرات المراقبة قدر الإمكان لكن سأدمر هذه الشاشات أولا.

وأتبع القول بالعمل أخذ عصى مكنسة طويلة وكسر بها جميع الشاشات، انتهى في دقيقة ومد يده لي:

_ هيا بنا.

كنت خائفة بل هلعة من الخروج قلت له وأنا أحيط يداي بساقاي وأضمهما لي:

_ اذهب أنت، لا أريد الخروج من هنا.

قال وهو يوقفني بيديه ممسكا بكتفيّ

_ أنت لا زلت في حالة صدمة، سآخذك معي حتى لو اضطررت لحملك طوال الطريق.

تخيلت المنظر أحسست بالإحراج، لا أريد أن أكون عائقا له، ليس في يوم كهذا فاستجمعت ما تبقى لي من شجاعتي، وقلت بصوت مبحوح:

_ لا سأخرج معك.

ابتسم بتوتر قائلا مشجعا:

_ هذه هي فتاتي.

أخذ نفسا عميقا ليشرح لي خطته:

_ الهدف هو ساحة السجن الخارجية، أريدك أن تكوني كظلي خلفي، وصامتة، علينا أن نتسم بالهدوء حتى نصل للساحة، بعدها سيسهل لنا الخروج من السجن، خصوصا بعد وصول الإمدادات.

أومأت برأسي متفهمة.

 _ حسنا.

كانت يداي ترتعشان، وجسدي يرتجف من البرد، أو ربما الخوف الذي يوهمني بالبرد، لم أعد أفهم جسدي، أمسك كونر يداي بيداه الدافئتان، وقال لي وهو يبث فيهما الدفء:

_ سأخرجك من هنا يا آستر، سنخرج سويا وسنكون بخير.

ابتسمت له في محاولة بائسة لدعمه:

_ بالطبع.

ألتفت هو إلى الباب، وفتحه ببطء، استمع للأصوات الخارجية، لكن الهدوء يعم الممر خرج هو وخرجت أنا معه، كنا نركض باتجاه الدرج الذي قدمت منه قبل دقائق عبرنا الباب الرمادي لنجد أمامنا مجموعة كبيرة من المساجين ربما عشرون رجلا، يجلسون على الدرجات السفلى منسجمون في أحاديثهم عن جرائمهم في الساعة الأخيرة.

أمسكت يد كونر لنتراجع إلى الوراء فلا طاقة لنا بهم، لكن كونر تجاهلني وهو يعبر المسافة بينهم بسرعة هائلة لم يكن رجلا عاديا بل كان رجلا خارقا، لم أصدق ما أراه وما أسمع، رؤية اللكمات من يد كونر، وسماع التأوهات من المساجين، نعم حاولوا المقاومة لكن كونر كان أقوى وأسرع وأحزم من أي واحد منهم، طرحهم جميعا أرضا في دقيقة، ثم نظر إليّ كنت قد غطيت فمي بيدي لم أكن أتخيل أبدا أن كونر من نفس نوعهم، لعله عميلا سريا فقد كان دائما الرجل البسيط  صاحب الظل الخفيف في نظري، لم أكن أتصوره الرجل ذا النظرة الحازمة، والأوامر الصارمة.

_ هيا آستر حتى لا يتجمعوا علينا، إنهم يراقبوننا عبر الشاشات.

_ هل هم موتى.

عاد إلي بنفس السرعة وقال بوجه خالٍ من العواطف:

_ لا يمكنني المخاطرة بتركهم أحياء.

همست بصوت منخفض:

 _ من أنت!

فأنا لم أعد أتعرف عليه، إنه ليس كونر البريء والواضح الذي اعتدت عليه!

إنه رجل آخر، رجل لا أتعرف عليه.

أشاح بوجهه عني، وقال:

 _ أنا هو ما تحتاجينه الآن، هيا بنا.

تبعته بصمت، غادرنا منطقة الدرج، لكن علينا للأسف أن نمر على حجرات السجناء، التي تتكون من خمسة أدوار ومن عندها سنصل إلى الساحة الخارجية، ثم سنكون بأمان، كنا بالطابق الخامس كانت الخطة تبدو سهلة لكن في الحقيقة كانت أصعب ما مررت به في حياتي، كانت الممرات متسخة بالأوراق الرسمية المبعثرة، صادفنا جثة الحارس جاك وقد شوه وضرب حتى الموت، وجدت صعوبة في المشي من أمامه، لولا يد كونر التي تجرني بعيدا عنه لشللت أتفكر في  جثته الممزقة، وصلنا لقاعة حجرات السجناء كانت الأنوار تنير القاعة الكبيرة، التفت كونر إلي وقال:

_ سنمشي ببطء لا نريد أن نلفت الانتباه لابد أن العديد منهم فضل البقاء في زنزانته، في كل طابق يوجد باب يؤدي إلى ممر آخر طويل، في نهايته توجد السلالم المطلة على الساحة، منها سنعبر إلى الخارج.

أجبته وكلي أمل في الخروج من هنا:

_ حسنا.

أمسك يدي اليسرى بيده اليمنى هذه المرة شعرت بارتجاف يده فعلمت بأنه خائف، كونر يخاف، أنا أؤمن بأنه لا يخاف إلا من خطر محقق، تمسكت بيده بكل ما أوتيت من قوة كم سأكره أن أفارقه الآن، مشينا حتى وصلنا منتصف القاعة عندها سمعنا أصوات صفقات تتردد من حولنا فتثير الرعب في نفوسنا، ثم فتح الباب الذي ننوي العبور منه وخرج منه المئات من السجناء، كانوا يصفقون لنا وهم يضحكون علينا يستهزئون بنا، قال أضخمهم حجما الواقف في مقدمة الصفوف.

_ رأينا كل شيء، فقلت للجميع: علينا استقبال الثنائي الظريف ذاك.

ثم قهقه ضاحكا بجنون وأكمل:

_ هل تظن أنه بإمكانك حقا قتل ألف سجين هنا؟

شد كونر على يدي أكثر وقال لهم بصوته القوي:

_ سأقتل كل من يقترب منا، من يقدر حياته يعود إلى زنزانته.

لكن لم يتحرك منهم أحد ظلوا يحدقون بنا باحتقار، بتحدٍ، بعيون من الشر الخالص، فعلمنا أنا وكونر ما ينتظرنا، لابد من المواجهة في قتال عنيف معهم.

فالتفت إلي متجاهلا ألف سجين يتوعدنا بنهاية مميتة، وأحاط يديه بوجهي، قائلا: بصوت يكاد يكون مبحوحا، وعينين تلمعان بشيء من الدموع.

 _ حين اقاتلهم اهربي يا آستر اهربي بعيدا من هنا، لا تهتمي إن مت، فقط انجي بنفسك، وإن نجوت أنا سألحق بك سأجدك وسأحميك.

 لم أتمالك نفسي بكيت وقلت له:

_ لا، كونر لن تموت اليوم، أنت أقواهم يمكنك الانتصار عليهم، أنت قلتها سنكون بخير.

فارقت دمعته عينه فأثار ذلك رعب في داخلي، إنه لا يصدق كلماتي، رد علي:

_ أتمنى ذلك.

ثم اقترب من وجهي، وقبل شفتاي برقة ثم همس:

_ أقبلك، وكأنني أقبل الحياة نفسها لكن بحلوها فقط بهناها وحسنها بعذوبتها وغناها، أشعر وكأني ثريا بلا مال وملكا بلا ملك، قد أموت شهيدا في حبك لكني سأموت سعيدا.

وداعا آستر، وداعا أيتها الطاهرة، وداعا أيها الحب العظيم، وداعا أيتها الروح اللذيذة، فقط كنت أتمنى لو بادلتني المحبة ولو لدقيقة.

أحبك وسأحبك حتى آخر أنفاسي.

وانطلق نحوهم كرصاصة جامحة، كان يقتل فيهم بلا هوادة، وهم يحاولون ضربه بالقضبان الحديدية، تفادى الكثير منها في الدقائق الأولى لكن شيئا فشيئا بدأ بتلقي ضرباتهم بصلابة، لكنهم كثر وهو واحد، وإن كان أقواهم، في النهاية بعد عشرون دقيقة من القتال أصبح عاجزا عن الوقوف، قلبي سينفجر من الخوف عليه، لا أحتمل الثواني الأخيرة، لكن ما الذي يمكنني أن أفعله لأنقذه لا شيء حتما لا شيء، هاهو جسده المتخم بالجراح بالكسور ينهار على الأرض، تلقى الضربات حتى فقد وعيه، لم أعد أراه لعله مات كنت أصرخ فيهم.

_ دعوه لا تقتلوه أرجوكم.

لكنهم يضحكون قتل منهم الكثير لكنهم ما زالوا يقهقهون إنهم مرضى مجانين.

حمله رجل ضخم ورفعه في الهواء واقترب من السور الحديدي الأبيض ثم نظر إلي بشماتة، رأى نظراتي المكسورة فرماه وهو يقهقه، كمن يقضي أثمن لحظات حياته، صرخت به بصوت انسلخ معه جزء من روحي.

 _ لا، كونر.

رمى كونر بكل قوته نحو القاع على الأرضية القاسية.

 ركضت من بينهم نحو السور لأرى كونر ممددا على الأرض على بعد ثلاثين مترا عني، سمعتهم يقولون:

_ دعوها تحزن عليه لدقيقة.

طول السور الحديدي مترا تقريبا فتسلقته بسهولة فيما أكبح بكائي بصعوبة، وقفت على الطرف الآخر منه وابتسمت لهم ساخرة، وقلت:

_ لن أسمح لكم بانتهاك جسدي.

واستعددت للموت سأشارك كونر المصير، فقط أتمنى أن أموت سريعا، رأيتهم يركضون إلي فدفعت نفسي بيدي لأسقط في الهواء كانت ثوانٍ لكني تذكرت حياتي، الجزء الجيد منها والجزء التعيس، كلا منا له نصيبه في هذه الدنيا، وأنا قد رضيت بحياتي التي عشتها، علي فقط أن أقبل بأنها انتهت حياة آستر جون قد انقضت، لكن يد قوية تقبض على يدي فعلمت بأنهم قد ظفرو بي، لا لا يمكن هل انتصر الشر على الخير، لا أريد ذكريات أخرى، أريد فقط أن أنتهي هنا صرخت بهم وأنا أضرب تلك اليد الحديدية الممسكة بي.

_ لا دعوني لا أريد هذه الحياة.

يده الدامية تقبض على يدي بقوة تكاد تكسرها تأوهت ألمًا.

رفعني سريعا فالتقت عينانا لم أصدق ما رأيت أنه ستيل هارت حالته سيئة للغاية، دمائه تغمر ثيابه والكدمات تكسو جسده، لكنه جاء، وصل ليحميني كما وعدني.

رفعني فوق السور وأوقفني بجانبه ثم ضمني إليه بحنان قائلا:

_ أوه يا حبيبتي آستر لا أصدق بأنني كنت سأفقدك.

قلت له بذهول وألم بانهيار وتعاسة:

 _ لقد قتلوا كونر، اِفتداني بحياته.

قال وهو يشدني إليه أكثر وأكثر:

_ إذا سآخذ بثأره.

الصمت والهدوء المخيف يعم المكان، أعين السجناء تراقبنا، ابتعد عني بلطف، وأمسك بيدي اليمنى، ومشينا من بين المساجين الذين يتنحون عنا، لم أرى هيبة كهيبة ستيل، رغم الدماء السائلة على يداه وجراحه المنتشرة على جسده، ومشيته المتعرجة، أراهم يتحاشون النظر في عينيه، يطبقون الصمت المهيب مشلولي الأقدام فلا يتحركون، وقفنا أمام غرفة مراقبة لها نوافذ زجاجية واسعة، وأدخلني بها وقال:

_ عديني ألا تنظري إلى الخارج.

سألته وأنا أعلم على ما ينوي القيام به:

_ أين ستذهب؟

 قال قبل أن يقفل الباب:

_ الدماء النجسة عليها أن تسيل.


تجدون الرواية كاملة

على امازون كندل ستور  
هنا 

0 التعليقات:

إرسال تعليق